حُــبٌ في السماء

حُــبٌ في السماء

حُــبٌ في السماء

الحُب الصامت أقسى قُساة أهل الأرض، ومع هذا إلا أنه أحيانًا يغدو أعدل القُضاة في محاكم القلوب.

* * *

... كنت أدسها في قلبي. أخبئها. أخاف عليها من برد حبي وغياب دفئي لو حدث بعد أن لو غرست في أرضها عبارة (أحبك) ولم تسعفني حياتي لإبهاجها بها كما كانت ولا تزال وستظل تستحقها بجدارة. كنت أتوسع في تبرير هذا الاختباء وهذا الحرص على سلامتها من جرحي أو قسوة غدي وغيبي ومجهولي. الإيثار ولد لكي تحيا روح وتتألم أو تتوجع روح أخرى نتيجة إيثارها. تلك التمرة الإسلامية التي ظلت أقصوصة وفاء إسلامي جميل ما هي إلا واحدة من قصص الإيثار. وهي كانت وستحيا في قلبي كحبة التمر الطاهرة التي آثرت الصيام عن التهامها بحب أعلم أنه من قوته وهزته داخلي سيأكل كل ما حوله من وله وحنين وسيخترق كل جدران الخيال ليهبط لمحبوبته أرضا ولو تضررت جزيرتها وسفينته من حوله.
أحببتها حقا وصدقا. وأعلم أنها بالمقابل أحبتني فعلا وعمقا. كنت أخاف عليها كخوف (الهرة) على صغارها .. فمن شدة خوفها تأكلهم كي لا ترى موتهم على أظافر هرة غيرها. لكنني لم أأكلها وبالمقابل حميتها من أظافر أمنياتي ومخالب متعي التي تمنيتها منها ووأدتها بعد عناء وتعب لأجلها.
اختفيت بها عنها. قبلتها في نفسي وبكيت. ضممتها وحيدا وبكيت. حملتها داخل آفاق صدري ومدن غيبي كما يحمل الشيخ الهرم حفيده الأول. غايتي معها أن لا أؤذيها أبدا .. أبدا. وحين تأكد في يقين قلبي أن حبي لها قاتلنا قطفته ثم دسسته رغم نضوجه. وقفت (وأنا أحملها على هيئة قلب) بين مفترق طرق على رأس كل طريق نار أشد اشتعالا من أخواتها: أأغرسها في وريدي لتستمر في حياة أبدية كما لو أنها كريات دمي الحمراء والبيضاء وصفائح دمي؟ أم أعيدها إلى أدراج قلبي الذي سيتوه مني حين أغيب عنها لانشغالي بواقعي وظروفي وحياتي فتتضجر هي وتعاني غيابي الإجباري وغيبي المجهول دون ذنب؟ أم أبكيها طوال العمر وهي بين حبيبتي التي إن مارست حبي لها سأفقده لعدم تقديم واجباته الكاملة وبين أي مصطلح آخر، أو مسمى أقل مخاطرة بفقدانها في مجتمعنا الشرقي الذي يفصل بين الحب والإخاء ويفرق بينهما كما يفرق بين الأبناء في المضاجع. تضخمت حيرتي وأنا أتقدم بها إلى الأمام إلى رؤوس طرق مدببة. وقررت دون علمها أن أحميها مني ومن حبي الجبار الذي أؤمن أنه بلغها أكبر مما لو أنني صارحتها به أو قصصت رؤياه على أذنيها وصدرها الأحن، وقلبها المبيض من شدة الطهر والطيبة.
قرأت مستقبلا واحدا لنا ونحن عاشقين .. واحد فقط وكانت نتيجته أن بكيت طويلا لأجلها؛ فما ذنبها بعد أن تسمع مني تفاصيل حبي لها وبالمقابل تسمع أحداث حياتي العسيرة وواقعي الممزوج بالضباب والعتمة الباهرة، وتفاصيلي التي تتورم كل يوم حتى لا أستطيع منع تورمها الذي يشغلني عن التغلب عليها أو التأقلم معها كتفاصيل.
كان علي لو أنني وهبتها الحب أن أهبها كاملا دون نقصان، دون أن تزاحمها عليه حياتي الواقعية وحقيقتي التي مهما استوعبتها إلا أنها مع الوقت ستطالب بحقها المشروع في صدري وروحي وقلبي وأيامي كحبيبة. أنا الذي خفت على أن يصيبها الأذى فكيف أخلق لها من ذات القلب الذي لو كان أعطاها حبها الذي تمنته سيؤذيها مع مرور الأيام والعمر. أعرفه قلبي هذا ليس قادرا على النجاة بحبه لها لو أخرج بذور مشاعره ثم بذرها في حضنها ونسي أن يسقيها عمره التالي.
حين بكيتها كنت على حق. وحين تبنيت قضية إخفائي لحبي لها كنت كما آمنت على حق؛ لأنه لا يعرف أحد حقيقة قلبك ونتائج ما قد تسهم الحياة في سقايته منه وما قد تؤذيه بجفافها معه سوى المرء ذاته.
هذه الخاطرة ليست تأبين حب ولا حداد عليه بل هي وفاء جدير بأن يعلو صوته، وحصانة من أذى لروح ليس لها ذنب غير أنها شعرت بإيمان وثيق وحب مستحق ومشاعر ذات هيبة وجدارة، ذات نقاء وصفاء وندرة. لقد كانت وما تزال وستظل في نظر قلبي المرأة التي أحببتها بصمت واحتفظت بها بعد عدة جولات من البكاء بصمت أكبر. ستظل الأنثى التي أتت على مقاس قلبي وخذلتني ظروفي -أنا- لا ظروفها من أن أرتديها حتى لا أعرض قميص قلبها للبرد من هجير أو غيب ما عدت قادرا إلا على حمايتها منه والخروج معها بها لأنها المكسب العظيم والأعطية السماوية التي كانت وما زالت وستبقى مائدة كريمة من السماء.

للمزيد من مواضيعي