قناديـلُ الحكايــــا يعدو الربيــع بعد الربيــع ويكبر البوح.. ( يمنع المنقول ) |
يعدو الربيــع بعد الربيــع ويكبر البوح..
( يمنع المنقول )
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||||||||||
|
||||||||||||
الكمامة
الكمَّامة ـــــ يا ناس لا تتجمعوا حولها بهذه الطريقة ، اتركوا لها فسحة تستنشق من خلالها الهواء النقي . ـــــ لا حول ولا قوة إلا بالله ، ماذا حل بكِ يا سُلافَة ؟ ـــــ شعرتُ بشيء من الدوار والرغبة في الاستفراغ . ـــــ سلامتكِ يا حبة القلب . أقبلت والدة عمرو تتوكأ على عصاها العتيقة ، وتتمتم ببعض الكلمات : كُبُّوها لي علاجها عندي ، هاتوا الفنجان ( الموري ) اللي حليتْ فيه المُرْ . أشممتها الجدة حفصة شيئا من محلول ( المُرْ ) ودهنت ببعضه جبهتها وصدغيها ، ثم حملوها إلى سريرها . أوصل المهندس عمرو والدته إلى غرفتها وهو يقول بصوت منخفض : أخشى أن يكون ذلك الوباء قد بدأ في الانتشار . ـــــ لم أسمع ما قلته يا عمرو . ــــــ لا أريد أن يسمع الأبناء كلامي هذا يا أمي . بات المهندس عمرو ليلته ـــــ تلك ـــــ تتقاذفه الأفكار وتعصف بفكره الهواجس ، وطفق يقلب الأمر على كافة وجوهه . ــــــ أيعقل هذا ! ــــــ ما زلنا في البداية ، اليوم هو الثاني من شهر رجب 1441ه ولم تتجاوز الإصابات العشرين بعد معظمهم ممن كان موجودا في الأراضي الإيرانية ، أضف إلى ذلك بعد منطقتنا عن مقر اكتشاف تلك الحالات ، لا .. لا .. لا أعتقد ذلك ، لعلها ثمة شكوك فقط . ــــــ لنفرض أن هذه الشكوك أتت في محلها ، لكن كيف ؟ كيف وصل إلينا بهذه السرعة ، وكيف انتقل إلى سلافة ، ومن أين أصابتها تلك العدوى ؟ كانت سلافة إحدى المعلمات المميَّزات على مستوى مدارس المنطقة ، مغمورة في مادتها ( الرياضيات ) ، محبوبة من مشرفاتها وزميلاتها وإدارتها ، تبذل مجهودا غير عادي في سبيل الارتقاء بمستويات طالباتها ، تساهم في وضع الخطط والاستراتيجيات الناجحة ؛ للنهوض بالعملية التعليمية في بلادها ، تشارك في معظم الأنشطة المدرسية والاجتماعية والخيرية ، لا تذكر على الألسن إلا بالخير ، اتخذنها زميلاتها مثلهن الأعلى ، وطالباتها قدوتهن الأسمى . غرق المهندس عمرو في بحر حيرته وشكوكه وهواجسه عازما على أن يذهب بزوجته لأخذ مسحة مخبرية من الأنف ، قال في نفسه : يجب علي أن آخذ رأي والدها أولا . ـــــ صباح الخير والرضى يا عم عبدالله . ــــــ أهلا يا ولدي ، خير إن شاء الله ، أجزم أن أمرا كبيرا أتى بك في هذا الوقت المبكر . ــــــ الأمر وما فيه يا عمي ... ــــــ يا عمرو لا تصدق هذي الأشياء ، هذي مؤامرة عالمية تحاك ضدنا ، وأظن أن ما أصاب ابنتي هو بداية أعراض انفلونزا ، فنحن في أواخر فصل الربيع الذي تكثر فيه فيروسات الانفلونزا الموسمية . لم يقتنع عمرو بالحديث الذي دار مع عمه ، وصمم على أخذ زوجته إلى المركز الطبي ؛ لإجراء مسحة مخبرية ، وفي طريق العودة بها إلى المنزل ابتاع بعضا من مُعزِّزات المناعة وعبوة من الكمامات ، ثم طلب من ابنته الكبرى ( ابتسام ) أن تُعلِّم جدتها طريقة ارتداء الكمامة ، وأن تعتني بوالدتها بعد أخذ الاحتياطات اللازمة . رفضت الجدة ارتداء الكمامة وأخذت تتمتم ببعض كلماتها المتبرمة : ــــــ كنُّكمْ فارقوا عن وجهي ، ماهو ذا اللجام اللي تِشونْ تَرَكُّبونُّهْ على خُشمي ، كيف تِحْسِبُنِّي ناقة عندكم ، ذا اللجام ما يُحُطُّنُّهْ الناس إلا لَمْجِمال . اتصل عمرو بمقر عمله معتذرا عن الحضور لظرف عائلي ، ثم شرع في إقناع والدته : ـــــ أرجوك يا أمي البسي هذه الكمامة ، العالم مقلوب برمته من هذا المرض ، والكوادر الصحية تقول : إن هذا البلاء ينتشر بسرعة رهيبة ، وإنه خطير جدا على كبار السن . ــــــ هيَّا فارقوا عني بلا خرابيط حقكم . بدأت سلافة تشعر بجفاف الحلق وبقشعريرة تسري في جسدها ، غير أن الرسالة التي وردت في منتصف نهار اليوم التالي على هاتف عمرو كانت تفيد بسلبية النتيجة . ــــــ الحمد لله رب العالمين ، ربما كانت تلك العوارض مجرد انفلونزا موسمية كما قال عمي . في المساء ارتفعت حرارة زوجته ، ومعها بدأت تشعر بضيق في التنفس ، حملها إلى المستشفى ، وهناك أعطيت حقنة مهدئة ومقدارا من الأكسجين ، ثم طلب الطبيب من عمرو إعادة المسحة لزوجته مرة أخرى ، كانت النتيجة هذه المرة إيجابية ، في الوقت التي كانت فيه الإصابات في ازدياد مضطرد . أدخلت سلافة قسم العزل ، وتم استدعاء بقية الأسرة لإجراء مسحة مخبرية ، كما تم سؤالهم عن تحركات والدتهم خلال الأسبوع المنصرم ، واكتُشف أن سلافة قد حضرت حفل زفاف لإحدى زميلاتها حيث كان عدد الحاضرات كبيرا جدا والازدحام على أشده . كان المهندس عمرو مرتبكا وقلقا ، يفكر في زوجته وابنته ابتسام التي كانت تعتني بها ، ووالدته الطاعنة في السن ، في الأثناء كانت السلطات الرسمية قد سخرت كافة إمكانياتها لمجابهة هذه الجائحة ، وصدرت الأوامر بتعليق الدراسة في كافة أنحاء البلاد ، وعمل حملات مكثفة ؛ لتوعية المواطنين بمخاطر ( كوفيد 19 ) ، وإرشادهم لضرورة الالتزام بالإجراءات الوقائية والاحترازات الصحية ، والابتعاد عن التجمعات وتجنب المصافحة في الوقت الذي كانت الإصابات فيه تزداد بمعدل رهيب . صُعق المهندس عمرو وهو يتلقى نتائج مسحات أسرته ، وعُزلت والدته وابنته ابتسام ، وأصبح يعيش في حالة لا يعلم بها إلا خالقه . ــــــ نعم يا دكتور طمِّنِّي . ــــــ ابنتك ابتسام بدأت تتماثل للشفاء والحمد لله . ــــــ والوالدة ، وزوجتي . ـــــ والدتك يا عمرو أدخلت العناية المركَّزة ، أما زوجتك فلازالت تحت الرعاية في قسم العزل ، لكن مشكلتنا معها تناقص مستويات الأكسجين في الدم . مرت الأيام ، وتفاقم الوضع بوصول حالات الإصابة إلى مستويات مخيفة ، ودب الرعب في قلوب الناس ، وبلغت القلوب الحناجر ، ودخل الحظر حيز التنفيد ، فلا ترى إلا شوارع خالية ومحال مغلقة وكأنها قيامة صغرى . توفيت الجدة حفصة ، وأدخلت سلافة العناية الفائقة ولم تستجب لجرعات الأوكسجين المكثفة ؛ مما أصيبت معه بجلطة دماغية لعدم وصول الأكسجين إلى المخ . في إحدى الساعات التي كان يسمح فيها بالتجول كان المهندس عمرو وأبناؤه ، وقليل من محبي سلافة ، وطالبة صغيرة تحتضن مجموعة من الزهور ، يقفون على مسافات متباعدة أمام بوابة المستشفى ـــــ وقد أخذوا بجميع وسائل الاحترازات الصحية ــــــ في انتظار خروج كرسي متحرك يحمل جسدا شُل نصفه وعجز لسانه عن النطق ، جسد سلافة التي سقطت من محجريها دموع ساخنة تترجم شكوى العالم بأسره من طاعون جديد اسمه ( كورونا ) ، عنوانه الكمامة ، وشعاره الفناء . بقلمي / الغيث للمزيد من مواضيعي
المصدر: منتديات مدائن البوح
آخر تعديل الغيث يوم
07-11-2021 في 12:15 AM.
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|