عرض مشاركة واحدة
قديم 09-29-2020, 05:44 PM   #22
وه


الصورة الرمزية جابر محمد مدخلي
جابر محمد مدخلي متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 5
 تاريخ التسجيل :  Sep 2020
 أخر زيارة : 05-12-2024 (09:58 AM)
 المشاركات : 38,523 [ + ]
 التقييم :  105964
 MMS ~
MMS ~
 SMS ~

لوني المفضل : Cadetblue


افتراضي الرسالة العشرون




20

اليوم سأبثك يا حبيبتي شكوىً لم أخبر بها أحد من قبل.
وحدك من سيحولها القلب إلى بئرٍ طاهرةٍ، لا علاقة لها بإخوة يوسف.
لقد شعرت للتو أنني سائح في أعظم متحفٍ بشريٍ، وروحاني.
كل الأعضاء التي فيه نادرة، وكل الأنفاس التي سجّلها البحث الطبيّ بحدود جسده هادئة.
أود أن أستبيحك –عذراً- هذا المساء بسرقة صمتك.. هذا التكوين الذي صممه الخالق في تفاصيلك الجذابة .. صوتك جذّاب لحدود التدحرج نحوك أكثر.
في يديّ الآن سبحة بيضاء، وعن يميني كوب ماءٍ مثلّج، ولحافيّ الذي أضعه على كتفيّ في محاولة لصد هجوم شظايا الثلج الخارجة من كل مكان كذلك الأبيض الشفّاف المنزوع من رئتي على هيئة أوكسجين ذهاب إليك مملوء بلهفاته عائد إليّ خاليّ الوفاض.
الغرفة ذات رائحة بيضاء غريبة. لا أعرف كيف ولا من أين تأتي الروائح البيضاء في منتصف الليل الأسود؟ أظنها رائحة إيمانٍ متشبّع برطوبة العطر الذابل في قارورة تجاوزتُ الخمسة أعوام في البحث والتنقيب عنها في محال العطور الوطنية والدوائية، والعالمية بغير جدوى؛ فثمة روائح لا يمكنها أن تُصنع إلا من الذاكرة. عندما تعلن شركات ومحال العطور العالمية إفلاسها وتوقف منتجاتها، نصبح -نحن- أكثر تضرراً منها: نفقد معها تواصلنا، ويخفُّ داخلنا شعور الخيبة، ليعلو مكانه أنين العابرين الأثرياء القادرين على شراء ألف قارورة لذاكرتهم، ودسّها في مستودعاتهم الثمينة.
لم أكن هذا المساء قادر على صد هذه الرائحة من التعلّق بي.
ألصقتها بكلتا يديّ، وفركتها أكثر من مرة في محاولة تشبه المجوسي الذي يقدح النار من صخرتين صامتتين ليجلس عابداً لها حتى تحرقه في الآخرة.
أو بدويّ هاجمه برد الصحراء، وجعله يتخبّط بحثاً عن مصدرٍ لإشعاع بدويٍّ قديم.
فركت ذاكرتي طويلاً، وأنا أشتعل داخلي على ضاغطٍ جماديّ لا يعي ولهيّ، وحنيني إلى مارد الرائحة المائي الذي يسكن داخله، ولا يقبل الخروج إلا بشروطه.
لم أجد فرصةً للذود عن مطالبي أيضاً .. فعندما يخرج لك ماردٌ من فانوس ذاكرتك تأكد أنك مهما طلبت سينفذ، ولكن كن قادراً في الأخير على تنفيذ طلبه الوحيد، وإلا لا تطلب المعجزات دفعة واحدة.
وكنت أنا أطلب معجزةً واحدةً لا سواها: أن أرجع طفلاً كي لا أشاهد قلبي منهكاً بهذه الطريقة، ولا معفّراً في ذاكرته، وأمجاد أنفّه الزاهدة عن كل الروائح المحيطة به.
وحدك رائحة هذا المساء. وتنمو رغبة اللجوء إلى صدرك، والانزواء بأعطاف جسدك كخيطٍ سكن قطعة قماشٍ مقدّسة وعُلِّق على أستار الكعبة إيذاناً ببدء شعيرة الطواف، وكقصيدةٍ جاهليةٍ نُظِمت على رخامٍ من ذهب، ولّفت بخيوطٍ فاخرةٍ لتعيش في مستودع الخلود.


جابر محمد مدخلي


 
 توقيع : جابر محمد مدخلي


إلهي منحتني نعمة الكلام ، إلهي فاجعل آخره الشهادة...


رد مع اقتباس
 
1 1 1 2 2 2 3 3 3 5 5 5 6 6 6 7 7 7 8 8 8 10 10 10 11 11 11 12 12 12 13 13 13 15 15 15 16 16 16 17 17 17 28 28 28 30 30 30 31 31 31 32 32 32 37 37 37 38 38 38 39 39 39 41 41 41 44 44 44 45 45 45 46 46 46 47 47 47