عاجَ ذاتَ أصيلٍ –لأن رحلة العمر أوْشَكتْ على الانتهاء- على مُلْتَقَاهُ بمليكة القلب ، واتجه إلى
أحبِّ شجرةٍ إلى قلبه -الأثلة- واتَّكَأَ على جذعها الضَّخْمِ ، وأجال ناظره في ذلك الموطن العزيز على
قلبه ، مُتذكِّرًا ليالي الأنس والوصل ، ثم قال : هنا التقينا ، هنا لهونا وضحكنا ، هنا أحببتكِ ، هنا همتُ بكِ ،
هنا تعاهدنا على عدم براح واحة الحِّب ، هنا تَهَادَتْ بكِ الإبلُ ، هنا نَعَبَ غُرابُ البَيْنِ
مُعْلنًا النَّأْي الأبدي ، هنا نَبَتتْ بي ليالي الوصل ،
واحْتَوَشَتْني)) سنينُ النَّأْي ،
ثُمَّ أعُودُ بعد الهجر المُرْمضِ ، فلا أرى إلا قلبًا لا يَشْعُرُ ، ورُوحًا تَنْفُرُ ، ومُحَيًّا يُشيحُ ، وجَسَدًا يَنْأَى !
ثُمَّ نقل ناظره إلى النَّبْعِ الذي كانا يتسامران عنده ، ثم قال : لم آتِ لأَطْلُبَ ودًّا ، أو أجّدِّدَ عهدًا ، أو أسْتَجْديَ
سعادةً ، أو أَنْشُدَ بِضْعَ لحظاتٍ من الأُنْسِ والسُّرُور ! بل أتيتُ مُثْقَلًا بشجى النَّدَمِ ، وعَبَرَات الخَشْيَةِ ، طالبًا العَفْوَ والصفحَ !
ثم رفع رأسه إلى السماء ، وقال ودُمُوعُهُ تَنْحَدرُ على وجنتيه : ربِّ إن كان سيطول مكوثي بين أحضان هذه الشَّمْطاء ، فارزقني الثبات ، والرضا ، والصبر ،
والتَّسليم في تلك الساعة التي تُزَلْزلُ الجبالَ واغْفرْ لي
ما أسْلفْتُ ، ولا تُؤاخذني بما بدر مني ، ولا تُحاسبني عليه ، واجعلْ ما أصابني من الشجى ، ووأد الأماني
كفارة ، واشملني برحمتك التي وسعتْ كلَّ شيءٍ في ذلك اليوم العصيب ، يا أرحم الراحمين !
ثم نهض ومضى وهو يقول : ستظلُّ ذكراكِ أعذب
ذكريات
الهوى ، وأنقى خفقات الحنين ، وأرقَّ نسمات الومق !