عرض مشاركة واحدة
قديم 05-07-2023, 10:59 AM   #9


الصورة الرمزية أحمد عدوان
أحمد عدوان متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 99
 تاريخ التسجيل :  Sep 2020
 أخر زيارة : 05-31-2024 (11:31 PM)
 المشاركات : 16,148 [ + ]
 التقييم :  37776
 SMS ~

لوني المفضل : Cadetblue


افتراضي رد: "صداع بالقلب" .. رواية قصيرة





**
كان علاقة زياد وزهراء لم تستقرّ بعد ، رغم مرور شهر كامل على تلك الفجيعة ، بعد منتصف النهار حضر زياد إلى صديقه سالم حسب ما اتفقا ليلة الأمس ، ركبا السيارة وانطلقا إلى الغابة المحاذية للمدينة ، حيث الخُضرة والهواء النقي والهدوء ، وبرّاد القهوة التي أعدّتها زهراء ، كان حديثهما ذا شجون ، وكان سالم حريصا على الاطمئنان على زهراء ، أخبره زياد أنّ علاقتهما لا تزال متوترة ، وأن الأمور تسير بينهما بالتغاضي ، خصوصا من جهته ، كانا يسمعان أغنية "عيناك" لخالد الشيخ ، وكان سالم يدندن : فأنا لا أملك في الدنيا .. إلا عينيك وأحزاني .
ـ هل تعلم يا زياد ، الحب عبر النت ، قد يكون أصدق بمرات من ذاك المتعارف عليه .
ـ كيف ؟ لم أفهم .
ـ شوف يا سيدي ، أنت حينما تقع بحب فتاة ، تتأثر بعدة عوامل كثيرة أولا شكلها وملامحها ، وثانيا وضعها الاجتماعي ، وثالثا روحها وذكاءها وعواطفها . صح ولا أنا غلطان .
ـ نفترض أنّ هذا ما يحدث ، وماذا عن الحب الافتراضي ؟
ـ بالعلاقة الافتراضية يا زياد ، أنت تتعرف أولا على الروح ، دون تأثيرات الجمال والمركز الاجتماعي لتلك الفتاة .
ـ ولكن الخداع والتزييف بالعلاقات الافتراضية كبير جدا، على عكس العلاقات العادية، حيث لا يمكن للفتاة أن تخدعك بملامحها أو نسبها.
ــ صحيح، ولكن هل تستطيع تزييف الروح ؟ أنت أولا تتعامل مع روح ، والأرواح جنود مجندة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف. إن حدث ذلك التآلف بين روحين ، ستسقط عوامل الجمال والمرتبة الاجتماعية ، بينما في العلاقات الواقعية ، نحن كرجال ، ننطلق من الجمال فقط ، من تسقط من الفتيات في اختبار الحُسن ، لن نمنحها فرصة أخرى لنتعرف على روحها ، قد يحدث ذلك فقط إن كان زواج مصلحة لأجل الحسب أو المال ، ولا أعتقد أنَّ الحبّ سيكون حاضرًا .
ـ ربما هو ذاك يا صاحبي .
**
سالم ليس من النوع الذي يحتفظ بصداقات كثيرة ، هو يكتفي بصديق واحد ، ولكنه صديقي حقيقي يمكن لسالم أن يعتمد عليه بأي أمر ، إن شئت ، هو أكثر من شقيق ، يعرفه منذ سبعة عشر عاما ، لم يحدث أن حدث بينهما خلاف أو جفاء ، كان زياد من ذلك النوع من الأشخاص الذين يفيض منهم الامتنان لقاء خدمة تُقدّم لهم .. من الذين يحتفظون بالمعروف في ذاكرتهم القريبة، وكان ممن قدموا لسالم خدماتهم الكبيرة ، لاسيما حينما كان صديقه يتعرّض لضائقة مالية . سالم يعتبر أن الحياة لم تجُد عليه بشيء أعظم من خِلّ وفي .
زياد شخص مثقف جدا ، بل وإنه أحيانا يكتب شعرا أفضل مما يكتبه كثير ممن يملأون الساحة ضجيجا فارغا ، لكن لا يستهويه الظهور ، ولا تتملكه رغبة الكتابة كما هم ، لذلك كانت علاقتهما مميزة جدا وحميمية إلى تلك الدرجة التي لا أسرار لأحدهما دون الآخر ، قصته مع زهراء جميلة ، قبل ثمانية أعوام ، تمّ تعيين الأستاذة زهراء كمعلمة جديدة بالمدرسة التي يشتغل بها سالم وزياد ، كان عامها الأول بمهنة التدريس ، وتشاء الصدف أن تشتغل وزياد بنفس المستوى التعليمي، لذلك كان من الضروري أن يكونا مُلزمين بالتشاور والتنسيق والإعداد المشترك، وكذا تبادل الخبرات، والصعوبات التي تعترضهما ، من هنا تبدأ قصص الحب ، القرب يمكن أن يزرع المودة ، يوما بعد آخر نمت قصتهما تحت نظر وسمع سالم، وكم كان يغيض صديقه حينما يقول له أنه سيتوجه إلى حجرة زهراء ليتناقش معها ببعض الأمور ، فيتغير لون زياد وتشتعل غيرته . سالم كان أرقى من أن يفعل شيئا كهذا أو يخطر بباله ، كانت زهراء جميلة ، هادئة وقورة ، إن زياد يستحق زوجه مثلها ، هكذا كان رأي سالم حينما وقع زياد بالحب ، وبقي عليه أن يقرر الخطوة التالية .
المشكلة الأكبر التي واجهت هذا الحب الذي انقضى من عمره عاما كاملا ، لم تكن بسيطة أبدا ، زياد يرفض أن تشتغل زوجته . يريدها أن تتخلى عن العمل وتلتزم البيت ، كأغلب ما هو حاصل هنا في هذه المدينة الصغيرة ، حينما عرض على زهراء هذا الزواج المشروط ، لم ترفض بالمطلق ، وأيضا لم تقبل ، بقيت مترددة بين الأمرين ، ظل الأمر هكذا إلى تدخّل سالم بحل مناسب إذ اقترح عليهما أن تواصل زهراء عملها إلى أن يحدث أول حمل ، حينها تطلب الإحالة على الاستيداع دون راتب لمدة عام ، وأخيرا تقدم استقالتها. ليس سهلا على امرأة أن تفرط بمنصب عمل يدر عليها راتبا شهريّا في سبيل الارتباط برجل، ربما يتخلي عنها بعد أشهر قليلة فتخسر الأمرين معا. الحل الذي جاء به سالم يمنحها سنوات للاطمئنان .اقتنع الطرفان ، ونجت قصة حبّهما من أول اختبار حقيقي ، كان زفافهما بعد عام آخر ، وسارت الأمور على خير، ظلّ زياد وزوجته يذهبان معا للمدرسة ، ويعودان معا للبيت القريب من مكان عملهما .
لم تحمل زهراء إلا بعد ثلاثة أعوام أخرى ، ظلت خلالها تشتغل دون أن ينبس زياد ببنت شفة ، إلى أن حملت بالعام الرابع ، وهنا نفذت بنود الاتفاق بالكامل ، قدمت على إجازة سنوية لتتفرغ لبيتها، ويبدو أنها تعبت من الشغل، فلم تتحسر أبدا على مفارقتها لعملها .
**
"تظل معافى حتى تحب ، حينها فقط سترهقك التفاصيل ، تتسرب منك الساعات والأيام في غفلة مطلقة بين انتظار واحتضار ، تفقد اتزانك وتوازنك ، ويسكنك القلق والأرق ، سينقلب كل ما فيك رأسا على عقب" هكذا كتب سالم وهو يرتشف فنجان شاي ، وأضاف : " في غيابك كنت ألوم الدقائق التي تتعثر بالسير ، أتشاجر مع الساعات التي تتباطأ بالعبور ، وأصارع الأيام التي ترفض المرور، لا تزال بداخلي تلك الأيام التي لم نعشها سويا ، وتلك الليالي التي لم نسهرها سويا على هيئة أشجار عارية لم يمر بها الربيع .
إنني أحسد كل أولئك الذين يلتقونك كل صباح في الطريق ، الذين يحظون برؤيتك كل يوم في الدوام ، الجيران الذين أتاحت لهم الصدفة أن تقيمي بقربهم ، الحديقة التي تزورينها لربع ساعة كل أسبوع ، هاتفك ، وأشياء أخرى حظها فيك أعظم من حظي لديك ، إن حرارة شهر أغسطس الملتهبة ، لا تساوي شيئا أمام حرارة الشوق المستعر بداخلي ، ولكنك - أبعد الله عنك الهم - لا تهتمين . لقد كنت تركضين نحو النهاية ، أما أنا فقد بقيت أنتظرها ، وتحمل قلبي عبء ذلك الوقت المرير الذي يخلو من اليقين ،
منذ أمد طويل وأنا هارب من نفسي ، ومن ذاكرتي وأحلامي ، هارب من الأغنيات ومن الصدف ومن المواعيد، وأشعر أن كل هذه الأشباء تلاحقني كصاحب ثأر .. هذا ما يفعله غياب امرأة كأنت بعاشق مثلي ، ثم إنه لمن المرهق جدا أن أبدو بخير طول الوقت ، وقلبي يتآكل حزنا ولا أجد طريقا مختصرا للعودة إلى نفسي ، ولا حتى طريقا معقدا ، لقد أخذت مني المسالك والمعالم والاتجاهات ، لقد مسحت الدروب ، وزرعت بداخلي شيئا واحدا هو حبك والآن لا جديد سوى " أنني أقول لك كل شيء لأنني أفتقدك ، لأنني أكثر من ذلك تعبت من الوقوف بدونك " تماما كما كتب غسان لغادة .. في الكتابة عزاء ، أو هكذا أظن "
**
الحجة زينب أعدت قائمة طويلة جدا من الطلبات لسالم ، عشرة أنواع من التوابل ، وأربعة أنواع من الفواكه المجففة ، وعصائر ، وغيرها كثير ، سالم لم تكن تنقصه الفطنة لينتبه أن هذه الطلبات بمناسبة شهر رمضان ، ثلاثة أيام وربما أربعة ، هي كل ما تبقى من شهر شعبان ، هكذا أخبرته والدته ،
ياااه .. لماذا ذاكرته مرتبطة دائما بلولا ؟ بدأ يستعيد كيف انه تنافس معها على عدد مرات ختم القرآن ، خلال رمضان ، لم يكن ينهزم أمامها ، سوى بعدد مرات شوقه لها ، كانا متعادلين في كل أمر آخر .
مرّ رمضان بلياليه الجميلة ، كان سالم غالبا يصلي التراويح ، ويعود إلى بيته ، هولا يحب أن يترك والدته لتسهر وحدها، كانت تقرأ القرآن بالوقت الذي يغيبه سالم في المسجد، وحينما يعود يجلس معها ساعة للسمر والقهوة ، ويستقبل بعدها زياد، وربما زوجته أيضا، يظل الاثنان إلى ما قبل وقت السّحور ، ويغادران ، وأحيانا يتسحّران مع سالم وأمه ،
ها قد جاء العيد ، بعد أن أتمّ سالم كل واجباته بمناسبة هذا اليوم السعيد ، استلقى على سريره لينام وقت القيلولة ، كانت الحرارة لا تطاق، ولكن شدة التعب تمنع عنه النوم ، تقلب يمنه ويسرة ، ثم أخذ دفتره وكتب :
"إنه العيد الرابع الذي يتجاوزني وأنا غير قادر على أن أنظر لعينيك وأفرح يا لولا ، غير قادر على تهنئتك كأي عابر سبيل ، غير قادر على تقاسم اللحظات معك ، غير قادر على أن نتبادل الضحكات سويا كما كنا نفعل ، هو عيد للنسيان ، وللشطب من الذاكرة ، كبقية الأيام المنزوعة الفرح ، هل يصح أن اسميه عيدا إن كان بلا طعم ولا رائحة ولا لهفة ؟ ماذا تفعلين الآن ؟ أتراك تتذكرين أيامنا وساعاتنا بالعيد ، ويزورك الحنين كما يفعل بي ؟ هل تجاوزت كل ذلك، وأنت الآن تمرحين رفقة طفليك في أحد شوارع برلين أو لندن ؟
إن كان يهمك .. أنا تقريبا بخير ، يلزمني فقط أن أتخلص من ذاكرتي ، أن أتملص من كل لحظة شوق وانتظار ، أن أتنكر للستة أعوام الأخيرة من عمري وأمضي وكأنني شخص آخر تماما . قد وهبتني الحياة فرصة أن أعشقك وفعلت ، ووهبتك الحياة خيارا بأن تتركيني وفعلت ، ولكنني الآن أعيد للحياة كل هباتها العظيمة وأطوي صفحتك "
سالم يدري أن مشكلته الكبرى أنه لا يعرف كيف يطوي صفحة لولا ، لقد جرّب كل وسيلة لذلك ، ربما عليه أن يفعل كما نصحه زياد منذ عامين أو أكثر حينما طلب منه أن يتزوج ، أو ينخرط بقصة حب جديدة تمحو سابقتها .
ذاك الذي ينوي طي صفحة لولا جلس يستعيد رسالتها الأولى ، تلك التي جاءت مفخخة باعترافات الحب ، وحواجز الشك التي زرعتها بخفة بين الكلمات ، حينها لم يهتمّ كثيرًا ، حديثهما باليوم التالي كان حبٌّا خالصا لوجه السعادة، كانت تلك البارعة على وشك إصدار كتاب ، وكانت ترسل له كل نصوصه ، تلك التي تفيض حبا وحزنا وخوفا ، ثالوث كان يلازمها ، كان كتابا رائعا ، حتى صورة الغلاف ، كان لسالم الرأي الفصل باختيارها ، بعد شهر أو يزيد صدر كتابها الأول ، وجاءت على جناح الفرح لتبشر سالم بصدوره ، وتطلب عنوانه كي يكون أول شخص يصله الكتاب بإهدائها .
أسبوعان ووصل الكتاب ، دخل سالم غرفته ، وأخذ ينظر إلى الظرف من كل جانب ، هذا الظرف أمسكته يدا لولا ، وهذا العنوان كتبته بأناملها ، كان خطها رائعا ، فتحه برفق ، واستخرج الكتاب ، حتى رائحة الكتاب كان سالم يعتقد أن بعضا منها ، هي رائحة حبيبته ، نظر إلى الغلاف الذهبي ، وكان هو من اختار لونه وصورته ، إلى العنوان ، وإلى اسم "لؤلؤة عبد الجليل" تحته ، فتح صفحة الغلاف ، وقلبه يتراقص ، يتلهف لقراءة ما كتبته له كإهداء ، لم يكن طويلا ، سطران قصيران ، ولكنه كان كفيلا بإسعاده وإرضاء غروره :
" الحقيقة يا سالم ..
أنا لا أهديك كتابا ، أنا أهديك روحي أيها الجميل الذي لا يُنسى "
الآن فقط ، بعد أعوام عديدة ، ينتبه سالم أن ذلك الإهداء كان مفخخا ، كيف أنه كان بكل ذاك الغباء ولم يتفطن أنها قالت له أنّك لا تُنسى ، والنسيان وعدمه دائما مرتبطان بمن نفارقهم ، هل يمكن أن نقول لأحد يلازمنا الحياة أنك لا تُنسى؟ .. كان الفراق دائما حاضرا في كلام لولا ، وكان سالم لا ينتبه لذلك إلا بعد فوات الأوان .
نحن نكبر من الداخل أولا ، ملامحنا انعكاس لذلك لا أكثر ، وأيضا نصغُرُ من الداخل ، وملامحنا توحي بذلك ، هكذا كان سالم يعتقد ، بل هو يعتقد أنه خلال عامين كان يصغر مع كل يوم يمر ، أما سنواته الأربع الأخيرة فقد كبُر فيها ضعفين أو يزيد . لا علاقة للعمر بالأعوام ، الأمر لا يقاس هكذا ، قل لي كم حزنا مرّ عليك ، واستوطن فيك ، وأقول لك كم عمرك ، وأخبرني كم عدد أيام سعادتك لأخبرك كم نصيبك من هذه الحياة .. هكذا كان يتحدث مع زياد ، وأيضا مع لولا .
كان سالم مؤمنا جدا بقول مولانا جلال الدين الرومي : المعاملة بالمثل ليست من الحب في شيء ، الحب لا مقابل له . كان يرى حبه لحبيبته تلك ، ذلك الحب العابر للمسافات ، الغريب في شكله وظروف نشأته ، حبا صادقا وحقيقيا وروحيّا لأبعد حد ، بل ويراه أقدس وأنبل من ملايين تجارب الحب التي مرت على قلوب البشر ، .. هل يمكن أن يكون الحب دون مقابل ؟ ماذا لو أن لولا قالت أنها تعتبرك صديقا لا أكثر ، هل كنت لترضى ؟ هل كنت لتبقى ؟ هل كنت لتنفق كل هذه الأعوام يا سالم وأنت على ذمة العشق ، ولولا على ذمة رجل آخر ؟
كان صوت الضمير يجلده ، وسرعان ما يقفل سالم الباب بوجهه ، ويغير الموضوع .. دعنا لا نفسد ليلتنا هذه وتعال لنسمع "أنا وليلى" .. ويجيبه الصوت بداخله .. " ماتت بمحراب عينيها ابتهالاتك" .



 
 توقيع : أحمد عدوان

حسابي على تويتر


التعديل الأخير تم بواسطة أحمد عدوان ; 05-07-2023 الساعة 12:03 PM

رد مع اقتباس
 
1 1 1 2 2 2 3 3 3 5 5 5 6 6 6 7 7 7 8 8 8 10 10 10 11 11 11 12 12 12 13 13 13 15 15 15 16 16 16 17 17 17 28 28 28 30 30 30 31 31 31 32 32 32 37 37 37 38 38 38 39 39 39 41 41 41 44 44 44 45 45 45 46 46 46 47 47 47