جدتي التي اختفت
قفز ولهو ، لعب وصراخ ، عراك عفوي يأتي سريعا ويذهب أسرع ومن غير اعتذار ، تلك هي عصاري الطفولة وبراءة الصغر وهمس المساءات الجميلة ، نتجرع شقاوتنا حتى الثمالة ، تغيب الشمس ولا ندركها ــــ أحيانا ــــ ونكتشف أن ملاءات الليل قد بدأت تدثر الكون من حولنا بالسواد فنعود سريعا إلى دورنا .
كانت الحياة بسيطة جدا ، لا كهرباء ولا مصابيح تضيء الأزقة ـــــ إلا ما ندر ـــــ ومن يتأخر منا إلى ما بعد الغروب فقد اقترف ذنبا أسريا عظيما . في غمرة البهجة تنبهت لذلك الأمر واكتشفت أنه قد أخذني اللهو وتأخرت عن موعد عودتي إلى الدار ، كنت أخشى ملامة جدتي وتأنيبها وهي الحريصة عليَّ أشد الحرص ، طفقت عائدا إلى دارنا في حارة ( المسطاح ) ، كانت البيوت عبارة عن مجمعات تتكون من أربعة إلى خمسة منازل يحيطها جدار وبوابة عامة مشرعة على الدوام تعبر عن مدى التلاحم بين سكان تلك البيوتات وغالبا ما يكونون أقارب . دارنا كان ضمن ثلاثة منازل على نفس النمط ، في مسافة عودتي كنت أتخيل ما سوف ألقاه من عتاب وتأنيب من أهلي ، وأتخيل ذلك الزقاق المخيف المحاذي لشمال الدور الموجود به بيت العطاس المهجور والذي كثرت حوله الأقاويل المرعبة ، وأن الجن تسكنه وكثيرا ما رأى أهل الحارة أجساما ومخلوقات وحيوانات غريبة ، جدتي وهي القلب الأكثر حبا لي كانت تقول لي إن في هذا التوقيت بالذات يلعب أبناء الشياطين ، دب الخوف في قلبي وأنا أسرع الخُطا وإذا بي أرى جدتي تلوح بيدها تستعجلني ثم اختفت . أسرعت في خطواتي وقلبي يتخلع من الخوف وولجت إلى حوش دارنا ولم أجد جدتي فيه ، فتشت عنها في أجزاء البيت فلم أجدها ، ذهبت أخيرا إلى المكان الذي تعودتُ أن أشاهدها تتوضأ فيه للصلاة فإذا بها قد نصبت أبريقها الفخاري أمامها وجلست على ذلك المقعد الخشبي الذي صنعه جارنا النجار ( صالح ) وشرعت في وضوئها على قطعة من الحجر الجيري الذي رسم فيه الماء ــــ على مدى الأيام ــــ أطلس العالم الجغرافي ، سألتها ؛ إن كانت على البوابة الخارجية قبل قليل فأجابت بالنفي ، حرت واندهشت وارتعدت فرائصي وحدثتها بما رأيت فقالت إن شدة الخوف جعلتني أتخيلها على البوابة أو إن الشيطان ربما تمثل بها وقالت مؤنبة لي : إن ذلك نتيجة لتأخري في العودة إلى الدار ، وحين طلبت منها أبريق الماء لأغسل رجليَّ من تراب اللهو اختفت من أمامي ولم يبق إلا الأبريق والحجر . *** الغيث حصري >::>::>:: |
رد: جدتي التي اختفت
.
. أتأمل تفاصيل سردك مذهل لغاية لا تتخيلها والله إنك قاصّاً راوياً .. دون شك لغة .. وسرد وحبكة وتشويق صنعتها يداك وسكبها فكرك أنت والنص عظيمان !! |
رد: جدتي التي اختفت
.
. هذا أنموذج القصة القصيرة والمحبوكة بعناية .. الوشم والتقييم والنشر مع منح مكافأة تستحقها .. |
رد: جدتي التي اختفت
هلا بالشاعر الأديب الغيث
قصة مرتبه محبوكة المعنى بحروفها تحولت لمشاهد مصورة أستطعت أن تأخذنا لقلب الحدث قرأت وشاهدت ولملمت الصورة في حدقة لب مشوقة لما بعد غني أنت بالمفردة والطريقة التى تجعل من الكلمة نسيجاً يتنفس تحياتي للإبداع وشكرًا لروحك الجميلة هنا |
رد: جدتي التي اختفت
حتى يصدق حديثها ولا يغيب متأخراً سرد احترافي، رعاك ربي |
رد: جدتي التي اختفت
>::>::
|
رد: جدتي التي اختفت
اقتباس:
ما أسعدني بهذا الكلام الجميل والله إنها لشهادة أفتخر بها وأعلقها على صدري إلى يوم النشور وخاصة أنها أتت من ابنة الضاد الخبيرة في دهاليز الأدب واللغة فألف ألف شكر بشرانا بارك الله فيك وأسعدك ولروحك الفرح >::>:: |
رد: جدتي التي اختفت
اقتباس:
لك الشكر حتى يفي ولك الفرح والسعادة >::>:: |
رد: جدتي التي اختفت
اقتباس:
وهنا أنت خبيرة أيضا في فنون السرد فتحليلك وقراءتك توحي بذلك وقد أتت في أسلوب جميل ومحترف فشكرا لك بحجم السماء وبارك فيك وزادك علما ولروحك كل الجمال >::>:: |
رد: جدتي التي اختفت
اقتباس:
وشكرا لهذا الحضور والتفاعل وبركت وأسعدك الله >::>:: |
الساعة الآن 01:37 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
مجتمع ريلاكس