منتديات مدائن البوح

منتديات مدائن البوح (https://www.boohalharf.com/vb/index.php)
-   قناديـلُ الحكايــــا (https://www.boohalharf.com/vb/forumdisplay.php?f=31)
-   -   الكرسوع ( رواية ) (https://www.boohalharf.com/vb/showthread.php?t=5374)

البنفسج 08-14-2021 03:03 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 
سرد متسلسل وعميق
ودقيق الكلمات والمعاني
حقا رواية متكاملة أنت رائع الغيث
ولازلت متابعة لهذا الجمال
وهذه التفاصيل اللطيفة الممزوجة بالإبداع


flll:

الغيث 08-14-2021 03:08 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة البنفسج (المشاركة 101168)
سرد متسلسل وعميق
ودقيق الكلمات والمعاني
حقا رواية متكاملة أنت رائع الغيث
ولازلت متابعة لهذا الجمال
وهذه التفاصيل اللطيفة الممزوجة بالإبداع


flll:

وهذا شرف كبير لي يا بنفسج
أن تتابعي معي حلقات هذه الرواية
فمثلك يُسعد به كل كاتب وأديب
شكرا من كل قلبي لحضورك ومتابعتك
ودامت هذه الروح نابضة بالألق
>::>::

الغيث 08-18-2021 05:52 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع


https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg

الفصل الخامس



عبر أزقة حارة الساحل الضيقة كان الكرسوع يخطو متثاقلا نحو رصيف الميناء القديم بعد أن قرر ترك العمل لدى الأستاذ ( أمين ) ، يحسب تلك الخطوات وهو لا يعلم ما تخبئ له الأيام ، ويحسبها وهو يعلم عن طبيعة العمل في ( المِعداية ) من خلال ذهابه مع بعض الرفاق للنزهة هناك أيام صباه ، كذلك أيام أن كان يهرب من هواجسه نحو البحر ، وفي غمرة تفكيره وجد نفسه يخرج من نهاية ذلك الزقاق الضيق الذي ينتهي بجوار سور السجن القديم القريب من الميناء ، المُشَيَّد من الحجر والجص والمغروز فوق أعلى حائطه قطع من الزجاج ؛ لضمان عدم هروب المساجين ، تقدم الكرسوع ـــــ قليلا ـــــ باتجاه الغرب ثم انحرف جنوبا من جوار ذلك المسجد الصغير القريب من مقر السجن ، مخترقا الأرض الفضاء الواقعة بين المسجد ومشارف الميناء ، وما أن وصل تلك المشارف حتى شاهد أمامه هناجر الجمارك التي عمل بها بضعة أيام وبأجر زهيد في لصق الطوابع فوق علب السجائر المستوردة ، وعلى يمين ذلك شاهد بقايا ( الكنداسة ) التي كانت تمد المدينة بجزء يسير من مياه البحر المحلاة ، حين وصول الكرسوع إلى الميناء كانت ( المِعدايَة ) تعج بالعاملين فيها ، وحركة الشحن والتفريغ من وإلى المراكب والصنادل الحديدية على أشدها ، ورصيف الميناء الخرساني مليء بالعربات التي تجرها الحمير ؛ لنقل البضائع التي يفرغها العمال من تلك المراكب والصنادل إلى مستودعات التجار ، وقد احتدمت أصوات وهتافات العمال وبائعي الماء البارد وهم يحملون ( ترامسهم ) المستهلكة واختلطت مع نهيق بعض الحمير في منظر يحاكي لوحة تجريدية صاخبة ، وقف الكرسوع للحظات يشاهد جمال البحر وصفائه وحركة الأمواج وهي تمر عبر فتحات ذلك الجسر الخرساني لتخرج من جهته الأخرى ، كما راق له تراقص تلك المراكب على صفحة الماء في ارتفاع وانخفاض بفعل التيارات البحرية وحركة الأمواج وبدت له وكأنها تؤدي رقصة جميلة ، وعندما نظر إلى الأعلى فإذا النوارس ترفرف بأجنحتها وتطلق أصواتها الجميلة وكأنها تحييه تحية الصباح .
على يسار الكرسوع تربع العم ( موسى القصير ) على كرسيه العتيق المصنوع محليا من الخشب ، وأمامه طاولة خشبية شعبية وضع فوقها بعض الأوراق ، وهو يمارس مهامه كمسؤول عن ( المعداية ) تحت تلك السقيفة المشيدة من الخشب والزنك ؛ لتقيه وهج الشمس ، وقد بدا عن يمينه خزانه الذي يحفظ فيه ماءه البارد ، كما بدا عن يساره ترمس الشاي الخاص به ، تقدم الكرسوع وسلم عليه وقدم إليه نفسه :
ــــــ صباح الخير يا عم موسى .. أنا محمود ولد البحار ( عثمان حمود ) .. وأريد العمل معكم .
ــــــ ما شاء الله تبارك الله .. أهلا بك يا ولدي .. الله يرحم والدك كان نعم الرِجال .. بس إيش تبغى تشتغل ؟
ــــــ أي حاجة يا عم .. حتى لو عتَّال .
ــــــ ههههه عتَّال .. لا يا ولدي عادك جاهل وما تقدر تتحمل الشيل الثقيل .. لكن أنا بأدوِّر لك على عمل يناسبك .. تعرف تحْسِب ؟
ــــــ أيوه يا عم .. تراني درست حتى خامس ابتدائي .
ــــــ طيب أنا اليوم بأكلِّم لك التاجر ( الباجلي ) يخليك مساعد لمحجوب المشرف على بضائعه .
ــــــ الله يطوِّل عمرك يا عم موسى .. شكرا شكرا .
ــــــ خلاص تعال بكرة وما يكون إلا خير .
شكر الكرسوع العم ( موسى القصير ) وودَّعه عائدا إلى الحارة لكنه تذكر السوق وأصحابه هناك فعزم على زيارتهم ..... يتبع

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 08-18-2021 05:56 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع


https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg




وهناك زارهم فردا فردا يسلم عليهم ويسأل عن أحوالهم وعن أخبار البيع والشراء معهم ، وفجأة شاهده صديقه ( كعبوش ) بائع الشاي فأسرع نحوه وأخذه بالأحضان وهو يردد :
ـــــ مرحبا ستين بحبيبنا الكرسوع فتى السوق وفتى الساحل والحارات كلها .
ـــــ شكرا يا كعبوش الله يحفظك ويبارك فيك وهذا من أصلك الطيب .
ـــــ تعال أعمل لك أحلى براد شاي في البلد وأتشرف بك أنا ومحلي المتواضع .
ــــــ حااااضر .. بس شوية أروح أشوف عمي ( أمان ) الخياط وأسلم عليه وأرجع لك .
بعد الاطمئنان على الخياط ( أمان ) عاد الكرسوع لصديقه كعبوش وأخذا يتبادلان أحاديث الود والإخاء وأحوال السوق والبيع والشراء ، وشرع في ارتشاف ذلك الشاي الجميل ذو النكهة المميزة والتي يعرفها منذ أن كان يبيع المقاعد والطاولات في وسط السوق ، وفجأة لاحظ الكرسوع دكان الخرَّاز ( باري ) مغلقا فسأل صديقه كعبوش :
ــــــ فين صاحبنا ( باري ) أشوف دكانه مقفَّل ؟ .
ــــــ والله يا أخي عمل مشكلة كبيرة .
ــــــ يا ساتر إيش سوَّى ؟
ـــــ ضحك عليه واحد من أصحاب الكرويت وأغراه بعشرة ريال عشان يسوي مقلب قاسي في واحد من أهل القرى ينزل المدينة يبتاع ويشتري .
ـــــ لا حول ولا قوة إلا بالله .. لا يكون ( الوَرْيَه ) ؟
ــــــ نعم هو الوَرْيَه ولا غيره .
ــــــ إنا لله من هذا الرجل ما يترك هذي المقالب حقه .. ما كفَّاه المقلب السابق اللي سواه في العم ( حاذِق ) ودخل السجن بسببه ، والمدينة كلها عرفت عن تلك الحكاية .
ـــــ لا يا كرسوع .. مقلب العم حاذق ولا شيء .. لكن هذا المقلب يمكن تضيع حياته فيه .
ـــــ لهذي الدرجة !!
ـــــ أي والله .
ـــــ خوَّفتني يا كعبوش عسى إيش من مقلب سواه في الرجل ؟
ـــــ يا سيدي هذا الرجل يجيب معاه بضاعة من القرى : حبوب وثمار ودجاج حي وبيض ، ويبيعها في الميدان ، وبعدين ينزل السوق يشتري مواد غذائية وأواني ويرجع بها إلى القرى .
ــــــ وبعدين !
ــــــ كان هذا الرجل صاحب لحية متوسطة الطول يعتز بها ، ودائما ما كان يسأل أهل الدكاكين عن دواء يطوِّل اللحية وينعِّم شعرها ، ومرة لقي ( الوَرْيَه ) جالس في دكان بدل صاحبه اللي كان عنده جلسة في المحكمة ، ولما جاء الرجل وسأل الوريه عن الدواء قال له الوريه : أيوه موجود ، شفت الخراز اللي في وسط السوق ، ترى والدته العجوز تسوي معجون يطول اللحية ويخليها تلمع ، وأنا راح أكلمه لك اليوم وأوصِّيه عليك ، وأنت مر عليه بعد ثلاثة أيام .
ـــــ أيوه وبعدين .
ــــــ قام الوريه وخلط معجون ( النِّير ) مع شوية صبغة سوداء وحطها في علبة وراح للخراز باري وفهمه بالحكاية وقال له : قل للرجل يدهن لحيته في الصباح وفي الليل ، ثم وصَّاه أن يتشطَّر حتى يوصِّل سعرها عشرين ريال ، ووعده باقتسام العشرين النص بالنص .
ــــــ ها .. كمِّل .... يتبع

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 08-18-2021 05:59 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع


https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg




ــــــ صاحبنا باري طمع في العشرة وطاوع الوريه ، وبعد ثلاثة أيام حضر الرجل واستلم العلبة ودفع العشرين ريال ورجع لقريته .
ــــــ إنا لله .. وبعدين .
ـــــ شكله الرجال لما وصل القرية دهن لحيته على طول وكررها في الليل ، وأعتقد أنه ما طلع الفجر إلا ولحيته قد طاحت على الأرض .
ـــــ أعوذ بالله .. وبعدين .
ـــــ المهم الرجال نزل المدينة من فجر ربي وهو ممسوح اللحية ، وجا للسوق يدوِّر على الخرَّاز باري وفي يده خنجر يلمع لميع وحالف ليقتله ، ووقت ما شافوه الناس راحوا دقوا على باري وقالوا له يهرب إلى أي مكان وإلاَّ شينقتل ، ومنها اختفى باري واختفى الوريه ودحين لهم أربعة أيام ولا ندري بهم في أي أرض .
ــــــ أعوذ بالله من هذا الوريه .. ذيك المرة كان شيقع طلاق بسبب المقلب اللي سواه في العم ( حاذق ) .
ــــــ أدري .. حرَّشوه أهل الكرويت على صاحبهم بائع العطور ( حاذق ) بقصد المزاح معه ، وقالوا للوريه : بعد الظهر يعود عمك حاذق من السوق عشان يرتاح ويتغذى في بيته ، وأنت تِلَثَّم واندس خلف دِرفة الباب المفتوحة ، ولما تحس بقربه من الباب اخرج بسرعة واركض واختفي .
ـــــ أيوه صدقت .. ولما رجع العم حاذق واقترب من باب بيته خرج الوريه يركض بسرعة واختفى ، حاول الإمساك به ومعرفة مين يكون فلم يستطع ، وهنا شك في زوجته وحسب أن ذلك الرجل كان عندها ، فدخل وعمل معها مشكلة كبيرة وطردها من بيته وكان ناوي يطلقها في اليوم الثاني لولا تدخل الصحاب من أهل الكرويت ، والاعتراف له بحقيقة الموضوع وأنهم كانوا يمزحون معه ، لكنه زعل منهم زعل كبير واشتكى الوريه للشرطة وسُجِن .
ــــــ صدقت هذا اللي حصل .. لكن أهل الكرويت راحوا له البيت وأخذوا بخاطره واسترضوه في الشفاعة للوريه ثم ذهبوا إلى أهل زوجته وأفهموهم بالأمر .
ــــــ نعم .. وعشان العم حاذق قلبه طيب راح الشرطة وتنازل عن الوريه .
عاد الكرسوع إلى الحارة وعندما اقترب من زقاقهم شاهد جمعا من النساء وثلاثة من الرجال متجمعين عند بيت ( أمينة ) وكان من ضمن النسوة والدته ( جميلة ) وجارتهم ( ريحانة ) و ( مِسكَة ) فانخلع قلبه وأسرع يستطلع الأمر :
ــــــ فينك يا كرسوع من أول ندور عليك !
ــــــ خير إيش اللي حصل ؟
ـــــ فيه ثعبان كبير دخل بيت ( أمينة ) وكان بيلدغ ابنها ( إسماعيل ) وهو يلعب مع الدجاج .. وربك ستر .. وتراه قد التهم كتاكيت الدجاج كلها .
ــــــ يا الله .. وفيان دحين ( أمينة ) .
ــــــ جُوَّه .. ترتعش وتبكي وحاضنة ولدها إسماعيل .
وبسرعة أحضر الكرسوع عصا غليظة واقتحم دار أمينة وهو يقول :
ـــــ أمينة طمنيني عليك وعلى ولدك .
ـــــ ولدي كان بيموت اليوم يا كرسوع .. هذا الثعبان يخرج حزَّات ويبلع بيض الدجاج وصغارها ويختفي .. لكن اليوم كان بيقضي على إسماعيل .
ـــــ ودحين فين موجود .
ـــــ في عش الدجاج .
رفع الكرسوع ثوبه لأعلى خاصرته ولفه عليها ، ودخل إلى عش الدجاج يبحث عن ذلك الثعبان ، وعندما وجده باغته بثلاث ضربات من عصاه حتى أرداه قتيلا ، ثم خرج يحمله على تلك العصا وهو يردد :
ـــــ خلاص .. خلاص .. لا تخافو .. قتلناه .. قتلناه ابن الكلب .. ما بقي إلا هذا الخسيس يضحك علينا ... يتبع



***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 08-18-2021 06:01 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع


https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg




تهللت أسارير المتجمعين ، وزغردت ( ريحانة ) ، ثم صوبت نظراتها الساحرة باتجاه الكرسوع فبادلها بنفس المشاعر ، وتناثرت الإشارات المعبرة عن الود بينهما .
في الجانب الآخر كانت ( مسكة ) تلتقط كل ما يحدث أمامها وتستشيط غيظا من ريحانة وتتمتم ببعض الكلمات المبهمة وتتشامخ بحركات فمها وأنفها كراهية وغيرة ، ثم تنهَّدت وقالت في نفسها :
ــــــ والله ما أخلي وحدة تشيلك عليَّ يا كرسوع .
كان الوقت يقترب من أذان العصر ، وقد بدأت غيوم الخريف تتراكم في سماء المدينة ، هنا تذكر الكرسوع أن سقف منزلهم كانت تنساب منه قطرات المطر في المرة السابقة فعزم على الصعود إلى أعلى السقف ؛ لتفقد الردم وتسديد الفتحات التي يتسلل من خلالها المطر ، صعد على السلم الخشبي وهو يردد : طرييييق .. طرييييق ؛ كي لا يكشف على عورات الجيران ، خاصة وأن دورات المياه الشعبية وأمكنة الاستحمام في المنازل كانت مكشوفة بدون سقف ، وعندما سمعت ( مِسكَة ) صوته يُطرِّقُ صاعدا لسقف منزله دخلت لمكان الاستحمام الخاص بمنزلها والقريب جدا من منزل الكرسوع في ملابسها الداخلية بزعم أنها لا تعلم عن وجوده أعلى السقف ، ثم أخذت تقوم ببعض الحركات الإغرائية والإغوائية ، فتارة تقوم بفتح بعض الأزارير من جهة نهديها ، وأخرى تومئ بنزع شيء من ملابسها عن أعلى مؤخرتها ، لكن الكرسوع لم يهتم بها ولم يكترث بتلك الحركات التي تقوم بها وانكب على عمله ، وعندما يئست منه ثارت واحترقت أعصابها وارتدت ملابسها على عجل ، ثم خرجت إلى الزقاق تصرخ وتصيح وترفع صوتها مدعية أن الكرسوع صعد للسقف ليكشف على عورات الجيران ، وأنها كانت تستحم وشاهدت الكرسوع يلوح لها بيده فسترت نفسها بسرعة وخرجت لتفضحه ، تجمع الجيران حولها وبعضهم صدق ألاعيبها التي تتفنن في تمريرها على البسطاء ، وطالبوا الكرسوع بالنزول فورا من فوق السقف ؛ لتسبب له هذه المرة في فضيحة مدوية وسط حارته ، ولم تكتفِ مسكة بذلك بل ذهبت إلى بقية الحارات ـــــ بحكم عملها ـــــ لنشر هذه التهمة الباطلة عن الكرسوع وتزيد معاناته .
في العيادة خرج العم ( محمود ) من هواجسه واسترخائه وارتحالاته على صوت الممرضة وهي تنادي على صاحبة الرقم ( 6 ) للدخول إلى غرفة الكشف ، وعندما أحس بأن موعده مع الدكتور ماجد لم يحن بعد عاد لاسترخائه وارتحالاته مجددا ، وهنا بدأ يرفع يده اليمنى مقبوضة إلى أعلى جبهته ، ويرفع الأخرى مبسوطة الكف نحو الأمام بحركات متتالية ، وكأنه يلقي خطبة حماسية أو يردد عبارات النصر ، هنا كانت ارتحالاته قد عادت به إلى أيام طهارته ( ختانه ) عندما كان صبيا ، حيث أقامت له والدته بمساعدة الجيران ( هَودا ) معتبرا شارك فيه معظم رجال الحارة ، حتى الأستاذ ( أمين الحجازي ) الذي كان الكرسوع يعمل لديه ، في هذا الهود أثبت الكرسوع رجولته وشجاعته مُبكِّرا ، ونال إعجاب الحاضرين ببسالته التي أظهرها أثناء مباشرة ختانه وهو واقف أمام الناس ( يتنَدَّب ) وقد رفع بيمناه ذلك الخنجر أعلى جبهته ملوحا بالأخرى للحاضرين وهو يردد :

أنا الفتى محمود
ابن أبي عثمان حمود
سليل الرجال وصنو الفهود
لا نعرف الغدر ولا نقض العهود
إن تِرَجَّلْتْ
فكونوا على قولي شهود
وإن ترغَّلت
فمكاني بين الكلاب
والقرود

.... يتبع الفصل السادس

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





علي آل طلال 08-19-2021 12:26 AM

رد: الكرسوع ( رواية )
 
ما أبدعك وكأننا نعيش الأحداث..!
متابع لهذا الإبداع

الغيث 08-20-2021 01:54 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ‏علي آل طلال (المشاركة 102805)
ما أبدعك وكأننا نعيش الأحداث..!
متابع لهذا الإبداع

وهذا شرف كبير لي أستاذ علي
شكرا بحجم الكون
تحياتي
flll:flll:flll:

عبدالعزيز 08-20-2021 09:17 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 
أخي وصديقي العزيز الأديب العذب الغيث : أنتَ آثمٌ في شرع الأدب ، إن ضننتَ علينا بمثل هذه الدرر النادرة (حفظكَ ربي ، وجعلكَ منارةً للأدب والأدباء ، ونبراسًا يحتذى به) .

>:: f:: >::

الغيث 08-20-2021 10:38 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالعزيز (المشاركة 103447)
أخي وصديقي العزيز الأديب العذب الغيث : أنتَ آثمٌ في شرع الأدب ، إن ضننتَ علينا بمثل هذه الدرر النادرة (حفظكَ ربي ، وجعلكَ منارةً للأدب والأدباء ، ونبراسًا يحتذى به) .

>:: f:: >::

شكرا أخي عبدالعزيز
وسعيد أنا بحضورك هنا في روايتي الكرسوع
وممتن لك
وأسعد بتابعتك لفصولها
بوركت أينما حللت يا حبيب
تقديري
ومحبتي
flll:flll:flll:

الغيث 08-22-2021 09:09 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع


https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg

الفصل السادس



مع طلوع شمس ذلك اليوم الجميل كان الكرسوع يستعد للتبكير إلى عمله في المعداية ، لكنه حينما خرج من بيته كان يشعر بالتعب والوهن يغتالان مفاصله وسائر جسده ؛ بسبب عدم حصوله على قسط كاف من النوم في ليلته الماضية ، حيث أرقته الهواجس والأفكار وأقضَّت مضجعه الكوابيس ، وفي طريقه إلى الميناء كانت تعصف برأسه الكثير من الأمور ، كان يفكر في ريحانة وهذا الحب الوليد الذي أضحى يتغلغل في كيانه ، ويفكر في مسكة وكيف يتخلص من أذاها ومقالبها المستمرة ، وما هي الطريقة المثلى لإيقافها عند حدها ، فهي تعتبر عقبة أمام حبه لريحانة ، يفكر في أمينة وابنها إسماعيل ، ويفكر في والدته التي بدأت تشكو من بعض أعراض الكبر ، وفي عمله الجديد المقدم عليه ، وكيف يضع حدا لتلك التهم الباطلة التي تُرمى في طريقه من حيث لا يحتسب ، ولم ينتبه إلا حين وصل إلى عمله في الميناء :
ــــــ صباح الخير يا عم موسى .. ها بشِّر .
ــــــ صباح الخير يا ولدي وصباح السعادة والسرور .. أبشِّرَك عمنا ( الباجلي ) وافق يخليك مساعد لـــ ( محجوب ) .. وبيعطيك راتب شهري يبسطك .
ــــــ بالله .. طيب الحمد لله .. توكلنا على الله .
هنا حضر المشرف محجوب لاستلام مساعده من العم موسى ، وقام بدوره بتسليم الكرسوع عمله مسؤولا عن تفريغ شحنات الأسمنت المستورد من الصنادل الحديدية إلى الرصيف ، ومنه إلى العربات التي تجرها الحمير ، وحساب حمولة كل عربة من أكياس الأسمنت قبل أن تتحرك ؛ لنقله إلى مستودعات التاجر الباجلي ، باشر الكرسوع مهام عمله الجديد واجتهد في ذلك وأخلص فيه ، وكلما رأى محجوب إنجازاته تتوالى كتب له توصية لدى التاجر الباجلي بزيادة الراتب الشهري له .
مرت الأيام سريعة وانفرجت بعض هموم الكرسوع من الناحية المادية ، وكان حبه لريحانة دافعا قويا لأن يكون عند حسن ظنها وظن الجميع ، عازما أن يكون شخصا مثاليا بكل ما يستطيع ، مبتعدا عن كل ما يؤثر على سيرته ، مجتهدا في توفير الريال على الريال ليجمع مهر حبيبته ريحانة التي يحلم بأن تكون شريكة حياته ، فيما كانت هي ــــ أيضا ـــــ تفكر فيما يفكر فيه ، كانت كثيرا ما تنتظر خروجه من بيته ذاهبا إلى عمله ؛ لتظفر بنظرة منه من وراء بابها الموارب ، كما تنتظر عودته قبل العصر لتكتحل عيناها برؤيته .
ذات يوم لم تستطع مقاومة شوقها للحديث معه ولو للحظات بسيطة فاخترعت حيلة إهداء والدته شيئا من إدام الطماطم والبامية الذي تعده عادة لوجبة الغداء ، وحين أحست بعودته بدت من خلف بابها الموارب وهي تناديه بصوت منخفض :
ـــــ محمود .. محمود .
فلما سمعها اقترب من بابها ، كانت ريحانة تلفُّ حول عنقها ورأسها شالا قطنيا تاركة جزءا من وجهها مكشوفا ، مدت يديها بصينية الإدام إلى يدي الكرسوع وهي تقول :
ــــــ هذي هدية مني لخالتي جميلة .
وعندما رأى الكرسوع تلك العيون الساحرة نسي الدنيا ومن عليها ، وهنا أمسكا بصينية الإدام معا ، وحلَّق كل منهما في عوالم الآخر ، وسرت بينهما أسمى إشارات الحب ؛ حتى كادت صينية الإدام أن تسقط على الأرض دون أن يشعرا ، في هذه الأثناء كانت مسكة تهم بالخروج من دارها فلمحتهما دون أن يدريا ، فما كان منها إلا أن عادت أدراجها إلى داخل بيتها وأخذت تبحث عن قارورة زجاجية فارغة ، وعندما وجدتها في المطبخ خرجت إلى ( الطُّرَّاحَة ) وسحبت ( قعادة ) كانت في وسطها وألصقتها بجدار الحوش ، ثم صعدت فوقها حتى رأتهما يتبادلان الحديث فرمت بالقارورة بكل قوتها صوب أعلى الباب ؛ لتصطدم بهامته الحجرية ويتناثر زجاجها فوق رأسيهما ، حينها أدرك الكرسوع أن في الأمر شيئا وخاف أن يتجمع الناس ويسيئون لسمعة ريحانة فأخذ الصينية وانسحب إلى داره سريعا .


يتبع .....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 08-22-2021 09:14 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg





في المساء حملت مسكة ( بقشتها ) المليئة بالأقمشة النسائية والطواقي وذهبت إلى بيت السيدة ( شرف ) المريضة بحجة زيارتها ، وعرض بضاعتها على ابنتها ريحانة التي كانت لا تطيق مسكة ؛ لسمعتها السيئة وحركاتها وألاعيبها المكشوفة ، وحين دخلت مسكة سلمت على ريحانة فلم ترد عليها السلام ولم تجاريها في الحديث ، أخذت مسكة تتمتم ببعض العبارات المبهمة والمليئة بالهمز واللمز :
ــــــ والله هذي الدنيا عجيبة وغريبة .. فيها ناس قلوبهم على ناس وهم قلوبهم على غيرهم .. بعض ( الأوادم ) فيها مغفَّلين .. ما يدرون باللي يحصل من وراهم .
وعندما أحست أن ريحانة لم تكترث بكلامها تنهدت وقالت :
ـــــــ يالله وداعة ربي .. بأروح أطلب الله .. والله يستر بس ليطلع لي الكرسوع ويعمل فيَّ حاجة .. قد الناس كلها تدري بالفضايح اللي يسويها .
كانت ريحانة تعاني كثيرا من الكلام الذي يدور حول محمود رغم تيقنها من براءته ونقائه ومعرفتها لكل تفاصيل حياته ، لكن كلام الناس كان يحرجها ويجرحها ، ولا تستطيع أن تدافع عنه أمام نساء الحارة ؛ حتى لا يسيئوا الظن في مقاصدها .
تتابعت الأيام والكرسوع يحاول جاهدا أن يتجنب كل ما يعكر صفو ريحانة ، أصبح يبتعد عن أي احتكاك أو شجار مع شباب الحارة أو غيرهم ، كذلك لا يتدخل كثيرا فيما لا يعنيه ، لعل ذلك يخفف من حدة الغضب منه عند بعض الناس ؛ بسبب ما يدور حوله ، وحين عودته ذات مساء من عمله وقبل وصوله إلى منزله شاهد بعض الشباب يمارسون لعبة ( المُرْقُع ) فتاقت نفسه إلى مشاركتهم في اللعب فلم يمانعوا في ذلك ، انخرط الكرسوع في اللعبة وحينما وقع الحكم عليه أثناء اللعب كان لزاما عليه أن يتلقى ثلاث جلدات بالمرقع على إحدى يديه من كل فرد في الفريق الخصم ، مد الكرسوع يده اليمنى بكل أريحية وتلقى ثلاث جلدات من الفرد الأول ، ثم ثلاث أخرى من الثاني ، وعندما جاء دور الثالث وكان شابا شرسا صعب المراس متمرد الخلق ، حيث أطلق جلدته الأولى بزيادة مسافة مد ذراعه فوقعت الجلدة على نهاية كف الكرسوع واصلة إلى بداية ذراعه ، وذلك يعد مخالفة في قانون اللعبة ، هنا حذره الكرسوع قائلا له :
ــــــ أقول .. لا تِذَرِّع .
لكن ذلك الشاب لم يكترث بالتنبيه ، وقال له في غرور .
ـــــ يا أخي حط لك قطعة كرتون فوق ذراعك وخلاص .
ثم جلده بالثانية على نفس منوال الأولى ، فما كان من الكرسوع إلا أن قام غاضبا وتشاكل مع ذلك الشاب المتغطرس وحدث بينهما عراك عنيف لم ينفض إلا بتدخل بقية اللاعبين .
انسحب الكرسوع من ذلك المكان ، وفي طريقه إلى منزله لمح العم ( مبروك ) يدفع عربته الشعبية المزركشة بالألوان و ( النشانش ) والتي يبيع عليها البليلة والبطاطا المسلوقة مع الحُمَر والبهارات ، وغزل البنات ، رغب الكرسوع في شراء شيء من ذلك وإهدائه لريحانة ، فأخذ ما يحتاجه من العم ( مبروك ) ، وعند منزل ريحانة تلفت يمينا ويسارا ؛ ليتأكد من خلو الزقاق من المارة ، ثم رمى بحصاة صغيرة على نافذة ريحانة فعرفت أنه محمود وخرجت للقائه عند الباب :
ــــــ هلا قلبي .
ــــــ فداك القلب يا ريحانة .
ـــــ إيش هذا ؟
ـــــ بليلة وبطاط وغزل البنات هدية لكِ ولخالتي شرف .
ـــــ الله لا يحرمني منك يا محمود .
ــــــ ولا منك يا قرة العين .
ـــــ أنا زعلانة منك !
ـــــ أفا .. ليش .. إيش اللي حصل ؟
ـــــ ليش ما تتصرف مع البنت اللي اسمها ( مسكة ) وتخرس لسانها ؟
ـــــ ريحانة هذي حُرْمَة وما أقدر أتصرف معها .. وأخاف لو مدِّيت يدي عليها تسوِّي لي مشكلة .. كذا وأنا بعيد عنها وأنتِ شايفة إيش اللي مسوياه فيني .
ــــــ محمووود .
ـــــ عيون محمود .
ـــــ نفسي أدخل قلبك عشان أشوف كبر إيش تحبني .
ـــــ قسم يا ريحانة إني أحبك أكثر مما تتخيلين .. أحبك كبر هذه الأرض اللي نعيش فيها .. أحبك كبر السماء .. أحبك كبر ... إيش باقي أقول .. صدقيني يا بنت الناس إنه ما في قلبي وحدة غيرك .. صدقيني إني ما حبيت وحدة قبلك ولا راح أحب بعدك .. أنا شاب ( فرنكلي ) زي ما يقولوا عني أهل الحارة .. يعني قلبي عمره ما مال لبنت معينة .. لكن أنتِ مدري كيف خطفتِيه مني .
مد كل منهما يديه للآخر ؛ لتأكيد هذا الحب المشترك بينهما ، في هذه اللحظات خرجت مسكة من دارها وهي تمسك بتنكة من الصفيح وعصا معدنية ، ثم شرعت تضرب تلك التنكة بتلك العصا بزعم أنها تريد تحطيمها عند الباب ، محدثة ربكة وطقطقات صاخبة وأصوات عالية أخرجت أهل الحارة من بيوتهم ؛ لاكتشاف تلك الجلبة وذلك الضجيج القادم من الزقاق ، وهنا انسحب الكرسوع من مكانه ؛ خوفا من الشوشرة .


يتبع .....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 08-22-2021 09:19 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع


https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg




( مِسْكَة ) طفلة قدِمَت مع والدتها ( هَدْيَة ) من إحدى القرى المتداخلة جغرافيا في منطقة الحدود ، واستقرتا في المدينة ، عملت والدتها في الخدمة المنزلية بأجر يومي بسيط ، وكانت تصطحب ابنتها معها إلى المنازل التي تعمل بها ، ثم تركت هذا العمل تحت ضغط أهل المنازل ؛ لعدم موافقتهم على اصطحابها لابنتها ، جمعت ( هدْيَة ) ما تحصَّلت عليه من فترة عملها في المنازل ، ثم اشترت به مجموعة من الأقمشة النسائية بالجملة ، وشرعت ببيعها على نساء الحارات بالتجزئة وبمكسب معقول ( دلَّالَة ) ، وبعد أن تفرغ من أهل البيوت تذهب ببضاعتها تلك إلى أطراف السوق ؛ لتبيعها هناك ، كانت مسكة ترافق والدتها في مشاوير مهنتها وتكتسب منها الجرأة ومفاصلة المشترين رجالا ونساء ، والاحتكاك معهم بالمخاطبة والنقاش ، وكلما كبرت مسكة اكتسبت خبرة أكثر في البيع والشراء والغش والخداع ـــــ أحيانا ــــ في عينات الأقمشة ، وتعلمت من والدتها فنون المراوغة والجدال وإقناع الزبائن ( الدعاية التسويقية ) ، وكانت كثيرا ما تترك والدتها ؛ لتجلس مع بعض الفتيات اللاتي يبعن ( الكوافي ) حتى استطاعت إقناعهن بتعليمها طريقة عمل تلك الكوافي ، ولأن مسكة تملك قسطا جيدا من الذكاء استطاعت أن تتفوق عليهن وتتقن عمل الكوافي والنقش والتطريز عليها بأشكال جميلة وجذابة ، ولذا أصبحت من أشهر صانعات وعارضات الكوافي في وسط السوق ، كما أن مسكة قد حباها الله هيئة جسدية لا فتة للنظر وشيئا من لمسات الجمال الطبيعي : كطول الشعر وسواده ، واتساع العينين ، وتقاطيع الجسد المغرية ، فقد استغلت تلك الصفات ؛ لتكون محط أنظار المشترين من الرجال ، وبذلك سيطرت على سوق الكوافي في المدينة ، وكلما زادت من حركاتها المغرية والغمز اللحظي المفتعل بعينها ازداد الإقبال على بضاعتها ، كانت مسكة تهدف من كل ذلك إلى الإيقاع بأي شاب من المجتمعين على بضاعتها ؛ للارتباط به زوجا لها ؛ تستند عليه في مستقبلها القادم ، إلا أن جميع محاولاتها تلك ذهبت أدراج الرياح ؛ لعدم ارتياح الكثير من الرجال والشباب لبجاحتها وجرأتها وخروجها عن المألوف .
مع مرور الأيام أصبحت والدة مسكة تعاني من ضعف البصر ، فذهبت إلى المعالجين الشعبيين الذين وصفوا لها العديد من الأعشاب والتراكيب الشعبية المطحونة ، وأوصوها بالاكتحال بها مرتين يوميا مما أدى إلى فقدانها للبصر كليا ؛ لتصبح عمياء عاجزة في دارها ، تولت المهمة بدلا عنها ابنتها مسكة حيث حلت محل والدتها في بيع الأقمشة بجانب تلك الكوافي التي تصنعها وتتفنن فيها ، مكرسة حركات الإغراء والإغواء أثناء ممارسة عملها ، لكن سمعتها كانت كافية لأن يرفض أي شخص فكرة الارتباط بها ، كررت تلك الحركات على شباب الحارات في الأزقة لكنها فشلت بالإيقاع بأي منهم ، وهنا بات هدفها الأخير هو الكرسوع .
اجتمع الكرسوع برجال الحارة للوصول إلى حل لمشكلة انخفاض زقاقهم عن بقية أزقة الحارة وانسياب مياه الأمطار إليه ومن ثم إلى بعض المنازل ، وبعد طرح العديد من الآراء والاقتراحات اتفق الجميع على عمل ( زِبير ) في بداية الزقاق ؛ يمنع تدفق مياه الأمطار من بقية الأزقة إلى زقاقهم ، كنصف حل للمشكلة ريثما يقوم أصحاب البيوت برفع منسوب منازلهم عن منسوب الزقاق متى ما وجدوا الاستطاعة المالية لذلك ، وبعده يتم ردم الزقاق لرفع منسوبه عن بقية الأزقة الأخرى في الحارة .


يتبع .....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 08-22-2021 09:22 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع


https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg




عندما انتهى الكرسوع من عمله في المعداية ذات نهار كان على موعد مع صديقه محبوب الذي أهداه حينها عددا من ( الجراجيح ) التي يصطادها مع الرفاق في الجبال المحيطة بالمدينة بواسطة ( المحانِب ) ؛ حيث قدمها إليه وهو يقول :
ــــــ محمود الغالي .. هذي أجمل هدية أقدمها لك وللخالة جميلة .. جراجيح من اللي يحبها قلبك .
ــــــ شكرا يا محبوب يا أعز صديق عرفته في حياتي .
ــــــ تراني ذبحتها وسلخت جلدها وما بقي إلا الخالة جميلة تشويها أو تقليها لك .. وبالصحة والهنا .
ــــــ لا أدري كيف أرد جمايلك الكثيرة يا محبوب !!
ــــــ العفو يا أخي .. إيش من جمايل كلها حاجة بسيطة .. بس لا تنسى الحبيبة .
لم يأتِ تذكير محبوب لصديقه الكرسوع بحبيبته ريحانة إلا وقد نوى في داخله إهداء شيئا من تلك الجراجيح لها ، وعندما وصل إلى الحارة قابلته ريحانة عند بابها وأخدتها منه مبتسمة شاكرة ولكنها كانت في عجل من أمرها ، عندها سألها محتارا ومرتبكا عن سبب عجلتها تلك :
ــــــ محمود لا تقلق يا قلبي .. عندنا الليلة بعد المغرب مناسبة ( سابع وترجيحة ) لجارتنا ( سِكِينَة ) بعد ما كمَّلت اليوم الأربعين لولادتها .. وأنا مستعجلة عشان يمديني ألبس وأتزين .
ــــــ يا سلاااام .. نفسي أشوفك يا ريحانة وأنتِ لابسة ومتأنتكة .
ـــــ إن شاء الله يا محمود .. إن شاء الله لما أرجع البيت بعدين .
عاد الكرسوع إلى منزله وشرع في توجيه الكثير من الأسئلة على والدته عن هذه المناسبة ، ومن يحضرها وكيف تكون ومتى تنتهي ، وسط استغرابها وتحديقها مليا في عينيه ؛ علها تعرف ما يدور في خاطره .
اجتمعت الفتيات وبعض نساء الحارة في مناسبة ( سكينة ) وبدأت مراسم السابع ، وكانت ضمن الحاضرات مسكة التي ما أن رأت ريحانة حتى ذهبت إليها وجلست بجانبها ملاصَقة ، وأخذت تنظر إليها من رأسها حتى قدميها ، وتشاهد تلك الزينة اللافتة وتلك الملابس الجميلة التي ترتديها وحينها أطلقت تنهيدة مبطنة بالحقد والحسد ثم همست بالقرب من ريحانة :
ـــــ إش إش إش .. إيش هذا الجمال كله وهذا اللبس .. بسم الله ما شاء الله وعيني عليك باردة .
ـــــ ! !
ــــــ لا حووول يا ريحانة .. ياليت هذا كله لواحد يستاهل !
لم ترد عليها ريحانة .
ـــــ يا خُبْعَة صدقيني .. الكرسوع ما يستحق كل هذا منك .
ـــــ صمتت ريحانة ولم ترد وكتمت غيضها ؛ حتى لا تتسبب في إحداث مشكلة وسط المناسبة .
ـــــ يا مغفَّلَة الكرسوع مش حِسُّه منك .. هو غارق عند أمينة .. ما تشوفيه داخل وخارج عندها .. ولا أنتِ عمياء وما تشوفين !
ـــــ بس اللي أعرفه إنها قريبته .
ـــــ من فين قريبته .. هذي حيلة يمشيها عليكم .. هذي حبيبته وأنا بأذني سمعته مرة يقول لها : يا عمري .. ومرة ثانية : يا حياتي .. وحتى لو قريبته .. ليش ما يقدر يتزوجها يعني !

يتبع .....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 08-22-2021 09:24 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع


https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg




نزلت تلك الكلمات على ريحانة كالصاعقة ، وأحست كأن خنجرا مسموما اخترق قلبها فأدماه ، ثم دارت بها الأرض وكادت أن يغمى عليها فخرجت من مكان المناسبة دون أن تكملها عائدة إلى دارها ، هناك كان الكرسوع ينتظر عودتها في وسط الزقاق ، لكنه صدم عندما مرت من جانبه في عجل وهي تغطي وجهها وجسدها بالكامل ولم تلتفت إليه ، ثم دخلت دارها وأغلقت الباب خلفها ، ارتبك الكرسوع ودارت به الدنيا وكاد أن يفقد صوابه من هول الصدمة ! ، عاد إلى بيته يهذي ويتمتم بكلام غير مفهوم ، وأجزاء جسده ترتعش ، ووالدته تسأله ماذا حصل وهو لا يرد إلا بالدموع المنهمرة من عينيه ، عند ذلك ارتبكت والدته واحتارت وأخذت تقرأ المعوذات ، وأيقنت أن مسًّا قد أصابه وهي لا تدري ماذا تعمل ، لكنها هرعت إلى السيدة حفصة ( معلمة القرآن السابقة في الكُتَّاب ) وأتت بها ؛ لتقرأ عليه شيئا من القرآن وتنفث في ماء وترشه به .
هدأت روعة الكرسوع ـــــ قليلا ـــــ لكنه لم يذق طعم النوم في تلك الليلة ، أخذ يتقلب في فراشه ويستعرض كل الأمور والاحتمالات ولا يجد سببا واحدا لتصرف حبيبة القلب ريحانة ، لكنه كان متيقنا أن الموضوع لا يخرج عن مقالب مسكة ، فعزم على اقتحام دارها صباحا وتأديبها مهما تكون النتائج ، لكنه فكر كثيرا في العواقب لا سيما وأنه غير متأكد من ذلك حتى اللحظة ، وما أن طلعت الشمس حتى ذهب إلى دار ريحانة ؛ ليعرف منها السبب ولكنها لم تخرج للقائه ، وعندما يئس أظلمت الدنيا في عينيه وذهب إلى عمله مرهقا ؛ ليستأذن من المشرف محجوب في الغياب لذلك اليوم بحجة مرض والدته وحاجتها إليه ، وبعدها عاد إلى الحارة وحاول مقابلة ريحانة وألح في طلبها وكرر محاولاته ، وعندما أحست بإصراره خرجت عند بابها والدموع في عينيها :
ـــــ خير يا ريحانة .. إيش اللي حصل مني .
ـــــ اسأل نفسك .
ـــــ إيش الحكاية يا قلبي ..وعن إيش أسأل نفسي ؟
ــــــ مدري عنك .. قول لنفسك .
ــــــ لا حول ولا قوة إلا بالله .. صارحيني يا بنت الناس .. قولي إيش فيه .
ـــــ محمود أنا جاعلتك تاج رأسي .. ومضحية عشانك .. وأنت تحب غيري !
ـــــ يا هووووه .. إيش هذا الكلام اللي تقوليه .. ومين بس اللي فهمك كذا .. ريحانة لازم تعرفين إنك قلبي وروحي وحياتي كلها .. وإن قلبي ما فيه إلا أنتِ وبس .. ريحانة أنا لو ألِفّ البر والبحر ما ألاقي زيك .. ريحانة أنتِ لو تقولي لي أرمي نفسي في البحر ولا في النار أفعلها والله من أجلك .. ريحانة أحلف لك على كتاب الله وأقسم أنه ما فيه في حياتي وحدة إلا أنتِ .. يا بنت الناس أنا ما نمت من أمس وقاعد أتعذب .. وممكن أموِّت نفسي لو حصل فراق بيني وبينك .
ــــــ طيب وأمينة !!
ـــــ لا حووول .. أمينة ههههه .. قولي كذا من بدري .. يا ريحانة يا حياتي وعمري .. اللي بيني وبين أمينة مش حب .. أمينة هذي تبقى .... ولا أقول لك روحي أسألي أمك عشان تتأكدي بنفسك وتتطمني أكثر وتبعد عنك هذي الهواجس .
ابتسمت ريحانة وتفتحت أساريرها وجفت دموعها وقالت :
ـــــ سامحني يا محمود .. الغيرة عمتني .. ومن كثر حبي لك كنت بأقضي على نفسي البارح .
ـــــ خلاص مسامِحِك .. لكن والله ما أروح من هنا حتى تقولي لي مين اللي وسوس لك بهذا الموضوع .
ـــــ مين غيرها .. مسكة .
ــــــ والله أنا كنت حاسس إنها ورا هذا الكلام كله .. لكن أوريها شغلها كيف وتجيك الأخبار . .ودَّع الكرسوع حبيبته ريحانة ومضى وهو يفكر كيف ينتقم من مسكة وينكد عليها عيشتها كما نكدت عليه .
فكر في أشياء كثيرة للانتقام بشرط ألا تترك أثرا بعدها يدينه أو يخلق له إشكالات كبيرة معها ، ذهب إلى السوق وهو يردد :
ـــــ الآن بدأت الحرب بيننا يا مسكة .
دخل إلى السوق واشترى قفلا حديدا كبيرا ثم عاد إلى زقاق حارتهم وتأكد من خلوه من المارة ، ثم وضع ذلك القفل في المزلاج الخارجي لباب مسكة وأقفله وأخذ المفتاح معه وذهب إلى داره ، وعندما همت مسكة بالخروج من دارها حاولت فتح بابها ولكنه استعصى عليها فحسبت أن طفلا قد لعب بالمزلاج الخارجي ودفعه إلى وضعية القَفل ، فاستعانت بجارتها ؛ لتفتح لها من الخارج ، لكن جارتها اكتشف ذلك القفل الكبير وأخبرتها ، أخذت مسكة تصرخ وتستغيث بالجيران الذين حضروا وحاولوا كسر القفل مرارا لكنهم فشلوا في ذلك ، قال أحدهم :
ـــــ هذا قفل حديدي كبير ما ينفتح بسهولة .. ويلزم له عتلة حديدية قوية .
أُحضرت العتلة وحاولوا مرة أخرى دون جدوى ، وهنا ناداها أحد الحاضرين :
ــــــ يا مسكة هذا القفل يبغى له حدَّاد .. يمكن يقدر يقصه أو يكسره بطريقته وأدواته .. أنا بأروح أجيبه .. بس لازم تدفعين أجرته .
ــــــ طيب .. طيب شأدفع له اللي يبغاه .. بس يفتح لي الباب .
حضر الحدَّاد وبعد مجهود شاق استمر لأكثر من ساعتين استطاع كسر القفل وفتح الباب .

يتبع .... الفصل السابع

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





بُشْرَى 09-03-2021 10:19 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 
.

.


لم أرَ بكل المدائن بضخامة هذا العمل الأدبي !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

رواية كاملة متكاملة ..
بتفاصيلها الدقيقة والدقيقة جداا ..
يحتاج مفردات هائلة ..
يحتاج لغة تطيعّها من أجل الهدف وصولا للمشهد الذي تريد تجسيده من خلالها ..

رأيت هنا بأم عيني ..

تفاصيل التفاصيل
الأسماء .. المتنوعة ..
كرسوع
كعبوش
مسكة
حسنية ..
محموود

والكثير ..
لكل مسمى دلالة من حيث الدور الذي يؤديه بالرواية ..

هذا العمل يجب أن يتوّج في المسارح ....!

الغيث ..

هامة أدبية راقية جدا جدا ..
لم أرَ برقيّك
ولا بضخامة أدبك أحد ..

امضِ .. وكلّي شغف لنهاية الرواية
فوالله أنك عظيم وتستحق التصفيق ..


عميق إعجابي وتقديري ..

سؤالي لك
ما ضبط كلمة كرسوع ..الصحيح ؟

الغيث 09-03-2021 10:51 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بُشْرَى (المشاركة 109462)
.

.


لم أرَ بكل المدائن بضخامة هذا العمل الأدبي !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

رواية كاملة متكاملة ..
بتفاصيلها الدقيقة والدقيقة جداا ..
يحتاج مفردات هائلة ..
يحتاج لغة تطيعّها من أجل الهدف وصولا للمشهد الذي تريد تجسيده من خلالها ..

رأيت هنا بأم عيني ..

تفاصيل التفاصيل
الأسماء .. المتنوعة ..
كرسوع
كعبوش
مسكة
حسنية ..
محموود

والكثير ..
لكل مسمى دلالة من حيث الدور الذي يؤديه بالرواية ..

هذا العمل يجب أن يتوّج في المسارح ....!

الغيث ..

هامة أدبية راقية جدا جدا ..
لم أرَ برقيّك
ولا بضخامة أدبك أحد ..

امضِ .. وكلّي شغف لنهاية الرواية
فوالله أنك عظيم وتستحق التصفيق ..


عميق إعجابي وتقديري ..

سؤالي لك
ما ضبط كلمة كرسوع ..الصحيح ؟

كلي ألق
كلي افتخار
كلي جمال
كلي زهو
بهذا الحضور الأنيق
بهذه الكلمات الذهبية
وسام أعلقه عى صدري
وايم الله لم يهدَ لي وساما بهذه الدرجة إلا منك يا بشرى
فماذا أقول
مهما بلغت فصاحة الكلمات فلن تفيك
ومهما برعتُ في الرد في أصل إلى نصف عطائك
فشكرا بلا حصر ولا عدد
وشكرا بلا حجم ولا قدر
ولك محبة الغيث وأكثر .
>::>::>::>::

ضبط الكرسوع هو : الكَرْسوع
وتعني الفتوة كما نوهت في بداية الرواية

الغيث 09-04-2021 01:18 AM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع


https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg

الفصل السابع


مع إطلالة شمس عام 1377 ه كان الكرسوع على مشارف العشرين من عمره ، وقد بدأ في تلك المرحلة العمرية يتسم بالرشد والاتزان العاطفي والواقعية الانفعالية ، وكلما مرت الأيام ازداد تمسكا بعمله الذي يعيش منه ويصرف الجزء الأكبر على متطلبات حياته واحتياجات منزله الذي يعيش فيه مع والدته جميلة ، كما ينفق بعضا من مرتبه على أمينة وولدها إسماعيل ، وكذلك أصبح يقوم ببعض المساعدات المالية لأسرة حبيبته ريحانة ؛ ليعينها على مطالب الحياة المتعددة بجانب ما يرسله والدها من مصروف لها ولوالدتها ، وهنا كان صديقه محبوب يسير بنفس الخُطا من الرشد والاتزان ، لتقارب عمريهما ، لا سيما وأنه قد استطاع الحصول على عمل في إحدى الدوائر الحكومية ( كاتبا ) .
اتسعت علاقات الصديقين الكرسوع ومحبوب مع شباب المدينة والراشدين فيها ، وحتى من يكبرهما سنا بحكم الاحتكاك ، وأصبح لزاما عليهما حضور المناسبات الاجتماعية وتبادل الزيارات معهم ، وتقديم بعض المجاملات ، والمشاركة في مجالسهم الخاصة حتى وإن كان ذلك في إجازة نهاية الأسبوع فقط ، أو في نهاية كل شهر . لكن ذلك فتح عليهما بابا للنزيف المادي الذي سيكون له وقعه المؤلم على سير حياتهما .
كانت ريحانة تتحين الفرص للقاء الكرسوع ، وفي نفس الوقت تكتظ داخلها بعض الشواغل ، وشيء من الحيرة والتوجس فيما قاله الكرسوع أثناء لقائهما الأخير عن أمينة ، ورغم تأكدها من والدتها عن ذلك الأمر إلا أنها كلما شاهدته يحمل أغراضا إلى بيت أمينة يبدأ الشك بالرقص على رؤوس الشياطين وتبدأ في الوسوسة إلى نفسها :
ــــــ دحين اللي قاله لي محمود حقيقة ولا إيش .. يمكن حيلة أطلقوها قديما عندما كنا صغار وصدقها الطيبيين من الكبار .. مدري والله .. أنا محتارة .. خايفة أكون ظلمته !!
قام محبوب بزيارة مفاجئة لصديقه محمود في مقر عمله بالميناء ، وشاهده منهمكا في عمله يغوص بقدميه بين أكوام مسحوق الأسمنت الذي تتهتك أكياسه الورقية ؛ نتيجة التفريغ من المراكب والصنادل فينكفئ على جوانب الرصيف الخرساني ، بينما الكرسوع يحْسِبُ هنا ويَعُدُّ هناك ، ويشرف على عملية إعادة تعبئة الأسمنت المنكفئ إلى أكياس ورقية جديدة ، وحينها لمح صديقه محبوب :
ـــــ هلاااا ملايين .. إيش المفاجأة الجميلة هذي ؟
ـــــ شوف يا ابن الناس .. من هنا ورايح بتلاقيني انط لك كل شوية .. خلاص صرنا جيران .. أنت في الميناء وأنا موظف في الجمارك .. ولا يفصل بيننا إلا مسافة مائتي متر تقريبا .
ــــــ ههههه تِشرِّف وتِآنس .. الميناء ذا كله يرحب بطلتك البهية .
ـــــ كيف حال خالتي جميلة ؟
ـــــ بخير والحمد لله .
ــــــ والحبيبة ؟
ـــــ تمام إن شاء الله .
وإيش أخبار أمينة .
ــــــ كويِّسة .. بس ولدها إسماعيل تاعبها شوي هذي الأيام .. قال إيش ما يبغى يواصل دراسته ويبغى يخرج من المدرسة .
ــــــ عجيب .. عسى يحسب نفسه في الثانوية .. عاده إلا في الابتدائي !
ـــــ أنا داري عنه !
ــــــ شكله طالع لواحد !!
ـــــ هاااا .. إيش تقصد ؟
ـــــ طيب إيش علوم مسكة ؟
ـــــ ههههه .. الله لا يوفقها .. وتراني محضِّر لها ــــ بعد السر اللي بيني وبينك ( القُفل ) ــــ حاجة تخليها تخرج تجري بلا وزرة ههههه .
ـــــ ههههه .

يتبع .....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-04-2021 01:29 AM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع


https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg


انصرف محمود وواصل الكرسوع عمله ، وقبل انتهاء عمله بقليل تبقت على رصيف الميناء ثلاثون كيسا من الأسمنت لم يسعف الوقت لنقلها إلى المستودعات ؛ لأن أصحاب العربات قد توقفوا عن العمل وعادوا إلى دورهم ، تحيَّر الكرسوع قليلا فيما يعمل ، لكنه قال لنفسه :
ـــــ الدنيا أمان .. وما فيه خوف لو تركتها هنا حتى الصباح .
ثم قام بتغطيتها بــــ ( طربال ) خشية أن تهب رياح قوية فتدفع الأمواج نحوها ، أو تهطل أمطار في تلك الليلة ، ثم انصرف عائدا إلى داره ، وبعد أن ارتاح قليلا ذهب إلى دار أمينة ، في تلك اللحظات كانت مسكة ترصد تحركاته ، وما أن دخل الكرسوع لدار أمينة حتى أخذت مسكة أبريقا مملوءا بالماء من دارها وانحنت تحت نافذة أمينة متظاهرة بأنها تسقي نبات الشار الموجود تحت نافذتها ، وهي في الواقع تسترق السمع لما يدور بين الكرسوع وأمينة ، هنا ارتفع صوت الكرسوع مخاطبا إسماعيل :
ــــــ شوف يا إسماعيل .. حكاية إنك تترك المدرسة لا وألف لا .. أمك تعبت وشقيت عشانك .. تبغاك تتعلم وتطلع رجال وتعوضها عن اللي فات .. وأنا أقول لازم تواصل دراستك ورجلك فوق رقبتك .. وإذا عاندت أمك تراني بضربك والله .. عال والله إيش تبغى تسوي وعادك جاهل .. تبغى تصيييع وتضيِّع نفسك وتضيِّع أمك معاك !! .. وأنت يا أمينة .. لو بكرة ما راح المدرسة ناديني وأنا أشوف شغلي معاه .
ارتسمت على ملامح مسكة الكثير من علامات التعجب والاستفهام واختلطت عليها الأمور ، ولم تستطع تحليل الموقف فانصرفت إلى دارها .
في الصباح بكَّر الكرسوع إلى عمله واكتشف أن أكياس الاسمنت الثلاثين التي تركها في الميناء قد سرقت ولم تعد في مكانها ، عصفت به رياح الحيرة ولم يدر ما يفعل ، وعندما حضر المشرف محجوب أخبره الكرسوع بما حصل ، فرد عليه :
ـــــ هذه مسؤوليتك يا ولدي وأنا ما بيدي شيء أعمله .. وعمنا الباجلي بيخصم قيمتها من مرتبك .. لكن أنا راح أتعاون معك حتى نعرف اللي سرقها .
ــــــ " إنا لله وإنا إليه راجعون " .
بدأت محاولات البحث عن سارق الأسمنت بسؤال أصحاب العربات عن ذلك ، لكنها لم تسفر عن شيء ، ذهب الكرسوع إلى رجل الأمن المستلم في البوابة وسأله إن كان قد لمح أحدا دخل للرصيف بعد انتهاء العمل ، فأخبره بأنه شاهد العربجي ( فرج ) يدخل من البوابة باتجاه الرصيف بعد صلاة العصر ، لكن فترة استلامه انتهت في ذلك الوقت ؛ ليأخذ مكانه زميل آخر ، هنا بدأ الكرسوع في البحث عن العربجي ( فرج ) بعد أن علم بأنه يعمل لدى التاجر ( الرعيني ) ، وعندما سأله عن سبب تواجده في الميناء بعد انتهاء الدوام أنكر ذلك ، فقال له الكرسوع :
ــــــ يا فرج ترى الموضوع خطير .. والباجلي يمكن يخصمها من راتبي ويمكن أدخل السجن بسببها .. فإن كنت تعرف شيء قول لي عشان تبري ذمتك .
لكن لؤم فرج ألزمه الصمت ، حينها قام الكرسوع بإغرائه ببعض المال فاعترف فرج بأنه كان مكلفا من ( الحسيبي ) وأنه قام بتحميلها على عربته ونقلها إلى دار الحسيبي ظنا منه بأنها تخصه .
قام الكرسوع بإخبار المشرف محجوب الذي قام بإبلاغ التاجر الباجلي عن السرقة حيث قام الأخير بإبلاغ الشرطة فقامت بالقبض على كل من : الكرسوع وفرج والحسيبي ، ثم فتحت تحقيقا موسعا معهم :


يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-04-2021 01:33 AM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع


https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg


ــــــ ما قولك يا حسيبي في الاتهام الموجه لك من التاجر الباجلي بسرقة ثلاثين كيسا من الأسمنت من فوق رصيف الميناء ؟
ـــــــ كذب .. لا أعترف بهذه التهمة ولا تعنيني .
ـــــ لكن فرج قد شهد بأنك كلفته بتلك المهمة وأنه نقلها إلى دارك !
ــــــ مش صحيح .. وهذا فرج بيني وبينه عداوة قديمة على بقية حساب .. وهو يريد أن ينتقم مني بأي طريقة .. وأنا مستعد أن أعطيه حالا وأمامكم مبلغه المتبقي ثلاثة أضعاف .. بس يبعد عن أذيتي وتشويه سمعتي .
ــــــ لا تنس يا حسيبي أن ملفك به الكثير من السوابق !
ــــــ هذي أشياء قديمة وقد اعترفت بها ونلت جزائي والآن تبت والحمد لله
ــــــ لاحظ أننا سنقوم بتفتيش دارك ومستودعك وسوف تبقى لدينا حتى ينتهي التفتيش .
ــــــ ما عندي مانع .. وإذا لقيتم شيء لا ترحموني .
بعد أن قامت الشرطة بالتفتيش ولم تعثر على شيء أطلقت سراح الحسيبي ، ثم أُخذ تعهد على كل من : الكرسوع وفرج بالحضور في اليوم التالي ؛ لاستكمال التحقيق .
عاد الكرسوع إلى منزله مكتئبا مهموما ، وفي المساء ذهب ليسأل عن ( الحسيبي ) فعلم ممن سألهم عنه أنه رجل صاحب أعمال حرة ومقاولات صغيرة ، ويعمل كذلك في بيع بعض مواد البناء ، وأنه كثيرا ما يلجأ إلى الغش في أغلب تعاملاته ، ثم أخبره آخرون بأن الحسيبي يقوم بتسليف المحتاجين بالمال مقابل رده بفوائد ربوية كبيرة ، ولكن حذروه من الاحتكاك به فهو ثعبان يلدغك دون أن تشعر . وفي اليوم التالي فتح التحقيق من جديد :
ــــــ ما رأيك يا محمود فيما قاله الحسيبي أمس .
ــــــ رأيي أنه كذاب ومخادع .
ـــــ لكننا لم نعثر على شيء أثناء تفتيش داره ومستودعه .
ــــــ أكيد وزعها في محلات ثانية
ــــــ هل لديك دليلا قاطعا بأنه هو الذي سرق الأسمنت ؟
ــــــ لا .. غير الشاهد فرج .
أُدخل العربجي فرج وتم استجوابه :
ـــــ فرج .. ذكرت في محضر أمس بأن الحسيبي هو الذي كلفك بتحميل الأسمنت ونقله لداره .. هل تصادق على أقوالك ؟
ــــــ بصراحة أنا قلت أمس كذا لأني كنت خائف من الكرسوع .. لأنه هددني ودفع لي عشرين ريالا عشان أتهم الحسيبي .
ــــــ هل لديك أقوال أخرى يا فرج ؟
ـــــــ لا .
تم إطلاق سراح فرج وسط صدمة الكرسوع واندهاشه وغضبه من تغيير فرج لأقواله ، وهنا سأل المحقق الكرسوع :
ــــــ ما رأيك يا محمود فيما قاله فرج ؟
ــــــ لا أدري .. أعتقد أن هناك ملعوبا حدث من خلفي .
ـــــ خلاصة الأمر يا محمود أنك أنت المسؤول الأول والأخير عما حدث .. وأمامك خياران إما التعهد بدفع قيمة الأسمنت للباجلي أو السجن فما هو قولك ؟ .
ــــــ خلاص أدفع وأمري لله .
ــــــ هل لديك أقوال أخرى ؟
ــــــ نعم .. حسبي الله ونعم الوكيل !
أقفل المحضر .


يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-04-2021 01:36 AM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg



خرج الكرسوع من قسم الشرطة وذهب إلى التاجر الباجلي وأخبره بما حصل :
ــــــ أنا آسف يا عمي عن اللي حصل .. غصب عني والله ولا أدري كيف .. واعترف بأنني المسؤول عن ذلك .. ودحين جيتك عشان تسامحني عن اللي حصل .. وتصبر علي شوية حتى أجد عمل جديد ثم أقسط لك قيمة الأسمنت .
ـــــ هههه وفين رايح تشتغل يا محمود ؟
ــــــ أي مكان يرزقني به الله .
ــــــ طيب وشغلي اللي أنت ماسكه ؟
ــــــ لا خلاص .. بعد اللي حصل مني ما عاد لي وجه أطل به فيك وأنت ما قصَّرت معي .. أكرمتني وأعطيتني راتب كبير .
ــــــ اسمع يا ولدي محمود ...
ــــــ عارف يا عم إنك بتسمِّعني كلام قاسي .. وبتقول إني مسؤول عن اللي حصل .. وراح تفصلني من العمل .. لكن أنا جيتك بنفسي واعترفت وفصلت نفسي .
ــــــ ههههه .. محمود ما درست في المدرسة إن بعض الظن إثم !
ــــــ إلاَّ .. لكن هذا اللي رايح يحصل .
ــــــ طيب اسمعني ولا تقاطعني : أنا جلست البارح مع محجوب وتدارسنا الوضع ، ووجدنا أن سيرتك بيضاء وفوق كل الشبهات ، واجتهادك وإنجازاتك معروفة عندنا ، وعشان كذا قررت ...
ــــــ أيوه .. قررتَ فصلي .. صح .
ــــــ لا يا محمود .. أنا قررت أرقِّي محجوب ليكون مشرف على المستودعات .. وأرقيك لتكون مشرف عام على تجارتي في الميناء بدل محجوب براتب أكبر من الأول .. ودحين لك من عندي يومين إجازة وبعدها تباشر عملك الجديد .
ـــــ اللاااااه .. هذا أسعد خبر سمعته في حياتي .. مش عارف أقول لك إيش يا عمي .. الله يعمِّر بيتك ويطول عمرك ويسعدك دنيا وآخرة .


يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-04-2021 01:39 AM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg



قبل أذان العصر كان الكرسوع قد وصل إلى الحارة وزف ذلك الخبر السعيد لريحانة التي شاركته فرحته بكل أحاسيسها ومشاعرها ، لكن فرحتهما تلك لم تدم طويلا إذ تحيَّنت مسكة فترة وجود الكرسوع في منزله عصرا ، وانتظرت حتى خرجت والدته من المنزل ؛ لزيارة والدة سكينة والمباركة لها بالسابع والترجيحة ، هنا حملت مسكة بين يديها مجموعة من الكوافي ، ثم ذهبت إلى دار الكرسوع وأخذت تطرق بيدها اليسرى على الدرفة المفتوحة من باب الكرسوع طرقات غريبة ، ثم تندس خلف الدرفة المغلفة ، وعندما أحست باقترابه من الباب ؛ ليعرف من الطارق قامت ببعثرة تلك الكوافي على الأرض واستلقت على ظهرها ممسكة بيدها اليسرى مزلاج الباب وجزء من جسدها داخل الدرفة والآخر خارجها ، ثم أخذت تصرخ وتستغيث بالجيران الذين توافدوا إلى المكان ، لمعرفة السبب ، فإذا بها تبكي وتقول :
ــــــ شوفوا كيف .. شوفوا إيش سوَّى معي رجال حارتكم الكرسوع .
ـــــ إيش سوى .. وليش إنت مرميَّة على الأرض ؟
ــــــ يا جماعة اسمعوا قصتي .. لقيني الكرسوع قبل شوية وهو راجع من العمل .. وقال لي يا مسكة أبغى كوافي حلوة .. هاتي لي مجموعة أنقِّي منها .
ـــــ أيوه وبعدين .
ـــــ لما جبتها له ودقيت على الباب عشان يجي برا وينقي براحته ويدفع قيمتها .. قام يسحبني بقوة لداخل بيته .. شكله كان ناوي يسوي معي حاجة مش كويسة .. وكان هو يشدني لداخل وأنا أشدُّه لبرا حتى طحت على الأرض وهو برضه ماسك يدي .. ولما جيتو ترك يدي .
كان الكرسوع واقفا أمام المتجمعين وهو مذهول مما يسمع والعرق يتصبب من جبينه ، والناس حوله منقسمون : فمنهم من صدق مسكة وشرع في توجيه الكلام الجارح إليه ، وآخرون متشككون في أن ما حصل لا يخرج عن كونه مكرا محكما من ألاعيب وحركات مسكة المعروفة ، وهنا ماكان من الكرسوع إلا الدخول إلى منزله وإحضار مصحف بين يديه وهو يقول :
ـــــ اسمعوا يا جماعة .. هذا كتاب الله العزيز .. وأنا أحلف عليه يمين بأن كل ما قالته مسكة كذب وافتراء ولم يحصل ولا أدري عنه .. وإذا كانت صادقة تحلف قدَّامكم .
هنا انسحبت مسكة إلى داخل دارها في صمت .


يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-04-2021 01:41 AM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg



بعد صلاة العشاء من نفس الليلة حضر ( الحسيبي ) إلى حارة الكرسوع يسأل عنه ، وعندما التقى به دخل الاثنان في نقاش حاد :
ــــــ بأي حق يا كرسوع تسأل عني وتتجسس علي .
ـــــ من حقي يا حسيبي أعرف من يكون غريمي
ـــــ لا مش من حقك
ـــــ إلا من حقي .. ولا تبغى تسرق ونسكت عنك
ـــــ أقول انتبه لكلامك .. أنا مش حرامي حتى تتهمني هكذا
ـــــ ومين عاد اللي سرق الأسمنت وأعطى رشوة لفرج عشان يغير أقواله
اشتد النقاش بينهما وتحول إلى عراك بالأيدي وتدخل الجيران بفض النزاع ، وانسحب كل منهما وهو يتوعد الآخر .
في وسط الحارة كان بائع الملابس الرجالية بالسوق الداخلي ( أبو الموضة ) يسكن في بيت شعبي مبني من الحجر والجص ، ونظرا لكونه ميسور الحال رغب في توسيعه وتشييده بالبناء المسلح ؛ ليستوعب أسرته الكبيرة ، اتفق مع المقاول الشعبي ( الحسيبي ) على ذلك ، وطلب منه إزالة الأسقف القديمة المشيدة من الدوم والمَظ والخسَف ، واستبدال المسلح بها ، مع زرع أعمدة وسط الحوائط الحجرية ؛ لتستطيع حمل الدور الثاني ، كذلك إنشاء صالة مسقوفة فوق الفضاء المسمى بـــ ( الطُّرَّاحَة ) ؛ لتكون المساحة أعلى كافية لعمل دور ثاني من غرفتين وصالة ، تم الاتفاق بينهما على التكاليف على أن تكون شاملة المواد ، وبعد انتهاء العمل سكن أبو الموضة في داره المعدَّلة والمضاف إليها دورا علويا ، ولكن بعد سنتين ـــــ فقط ـــــ تصدع المبنى كليا وأوشك على الانهيار ، ترك أبو الموضة داره وبحث عن دار آخر بالإيجار ريثما يرفع شكوى ضد الحسيبي ، وصار المسكن مهجورا مسببا قلقا بالغا لسكان الحارة ، الذين بدأوا مع مرور الأيام يسمعون حركات غريبة وأصوات هسهسات من داخل المسكن ، كما كثرت حوله الإشاعات بأن الجان قد سكنت به ، وذات نهار لمحت مسكة عند عودتها للحارة ـــــ قبل أذان الظهر بقليل ـــــ ذراعا بيضاء تُلَوِّح من خلف أحد أعمدة المسلح في البلكونة الشمالية المطلة على الزقاق ، خافت مسكة وتلبسها الرعب فأخذت تجري وتصرخ وتستغيث برجال الحارة ، وطافت على أغلب المنازل ؛ لتخبرهم بما شاهدته ، تجمع أهل الحارة رجالا ونساء كبارا وصغارا أمام ذلك المسكن المهجور الذي يفصل بينهم وبينه أرض فراغ ، واشتعلت النقاشات واحتدم الجدل وكثرت التفسيرات والأقاويل وكل يدلي بدلوه :


يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-04-2021 01:44 AM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg



ـــــ يا جماعة هذا جني .. أنا متأكد من كلامي .. ما تشوفون ذراعه مثل القطن المنفوش .
ـــــ اكيد والله .
ـــــ بس اللي أعرفه أنهم يطلعون بالليل مش بالنهار .
ــــــ لا يا أخي مين قال لك .. أحيانا يطلعون بالنهار برضه .
ـــــ طيب وبعدين يا جماعة إيش نسوي ؟
ــــــ لازم واحد من الرجال الشجعان يتبرع ويروح يكتشف الموضوع .
لكن لم يجرؤ أحد من الرجال الحاضرين أن يغامر ، وكان عذرهم أن باب العمارة في الزقاق الخلفي موصد بقفل حديدي ولا يوجد منفذ آخر للعمارة ، كانت تلك الذراع تلوح قليلا ثم تختفي ثم تعاود التلويح ثم تختفي ، وكلما لوَّحَت ضج الحاضرون بذكر الله وقراءة الإخلاص والمعوذتين .
انتهت صلاة الظهر وخرج المصلون من المساجد وتسامعوا بالخبر الذي انتشر ـــــ أيضا ـــــ في بقية حارات المدينة فانضموا للمتجمعين هنا ، قال أحدهم :
ــــــ اسمعوا .. أنا سأقرأ عليه آية الكرسي بصوت مرتفع ثلاث مرات .. وبنشوف إيش اللي يحصل بعد القراءة .
ثم شرع في القراءة ولكن لم يحصل شيء وما زالت الذراع تلوح ثم تختفي ، قالت أمينة في نفسها وهي تضم ابنها إسماعيل إلى جسدها ؛ خوفا من هذا الشبح :
ــــــ فينك يا محمود .. لو كنت هنا لعرفنا كل شيء عن هذا الموضوع .
ثم صاحت ريحانة في الجميع :
حتى أنتم يا الرجال خايفين ما تروحوا تشوفوا الموضوع .. عاد إيش نسوي إحنا يالحريم .. ثم قالت بصوت مرتفع :
ـــــــ ما لها إلا الكرسوع !
في هذه الأثناء حضرت إلى المكان ( شقراء ) بائعة ( الفِصْفِص ) وهي امرأة كبيرة في السن ، تأملت في الحاضرين وقالت :
ــــــ اتركوه .. اتركوه .. لا تؤذوه عشان ما يصيبكم بِشَرّ وخصوصا النساء والصغار .. هذا مارد من الجن اسمه ( النَّقَّار ) ، كان ـــــ دائما ـــــ يخرج للناس في الزقاق الفاصل بين حارة الساحل والبوري ، وخاصة بعد المغرب ، وقبل أن يخرج يسوي أصوات تشبه أصوات النقر على الحديد .. وكثير من النساء أصابهم أذى كبير منه وأصبحوا مجانين .
ردت إحدى النساء :
ــــــ صادقة يا خالة شقراء أنا قد سمعت عنه من أول .
وهنا ضج المكان بذكر الله ، وابتعد الصغار عنه ، وقامت بعض النسوة بضم أطفالهن إلى صدورهن وشرعن في تحصينهم وتغطيتهم بأطراف أغطية أجسادهن ، ثم أكملت الخالة شقراء حديثها :
ــــــ مرة من المرات وعاد أعمارنا ثلاثين سنة .. خرجنا أنا وثلاث من جاراتي عشان نحضر ترجيحة حق بنت وحدة تعز علينا .. وبعد شوية سمعنا صوت نقر على الحديد .. وبعدها شفنا ( ملاية ) جديدة مرمية على الأرض .. قامت جارتي ( آمنة زُهدية ) تقول : إنا لله .. مدري منهي ذي الراقدة طاحت من فوقها هذي الملاية .. ثم أخذنها ووضعنها فوق كتفها .. تدرون إيش اللي حصل !
ــــــ ها .. أيش حصل يا خالة .
ـــــــ انقلبت الملاية كبش فوق كتف آمنة زهدية .
ـــــ أوووه .. وبعدين
ــــــ صاحت الحرمة وارتعد جسمها وسمعنا الكبش يقول بصوت عالي : ههههه أنا النَّقاااار .. والحرمة قالت بصوت عالي : لا إلاه إلا الله وفقدت وعيها .


يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-04-2021 01:47 AM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع
https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg




ــــــ يا ساتر وبعدين
ــــــ وديناها بيتها .. وبعد يومين وِرْمَت الحرمة حتى صارت مثل البرميل .. وما فرَعْ لها إلا واحد ( مغربي ) كان يعالج الناس .. قعد يعالجها ثلاثة شهور حتى تعافت .
في تلك اللحظات كان الكرسوع عائدا من عمله ، وحين رأى ذلك التجمع أصابه القلق والخوف وحسب أن شرا قد وقع في الحارة ، فأسرع إليهم مهرولا ؛ ليكتشف الأمر ، وعندما علم بالحكاية كلها قال :
ــــــ أنا أطلع له .. هاتوا لي عتلة وشاكوش كبير .
وعندما تم إحضار العتلة والشاكوش قال بصوت مرتفع وبسالة معهودة :
ــــــ أنا الكرسووووع .. ولا كرسوع غيري .. من أجلكم يا أهل حارتي جميعا أغامر بحياتي .
تهيأ الكرسوع للمغامرة وسط ممانعة شديدة من والدته ورجاء من أمينة وريحانة بأن لا يفعل ما نوى عليه ، وقد كانوا يتمنون حضوره ؛ ليكشف لهم المستور ولكن بعد سماع حكاية الخالة شقراء خافوا عليه .
انطلق الكرسوع نحو بوابة العمارة في الزقاق الخلفي ، ووالدته وأمينة تبتهلان إلى الله أن يحرسه وينجيه ، بينما ريحانة تتساقط من عيونها الدموع ، أما مسكة فقد ظهر على ملامحها الابتهاج حتى وإن أخفت ذلك ؛ علها تكون نهايته في هذه المرة ، وما أن سمعوا صوت تكسير القفل الحديدي وفتح باب العمارة الصدئ حتى ساد الصمت والترقب ، وحُبِست الأنفاس ، وارتعدت أقدام النساء ، وفجأة اختفت تلك الذراع الملوحة ولم تعد تظهر ، ثم سمعوا صوت صرخة قوية أطلقها الكرسوع من داخل العمارة ، وعم السكون محيط العمارة ، هنا كادت والدته وأمينة وريحانة أن ينهرن خوفا من الفجيعة المنتظرة ، وسرت قشعريرة في أجساد المجتمعين واحتدم الجدال بينهم :
ــــــ مسكين الكرسوع راح ضحية .
ــــــ ومين قال له يتملقف ويضحي بنفسه !
ـــــ لا حول ولا قوة إلا بالله
ــــــ خسرنا واحد من أشجع الناس في الحارة
ــــــ الله يرحمه ويغفر له .
وفجأة ظهر الكرسوع في البلكونة المواجهة لهم ملوحا بذراعه مبتسما لهم ، وفي يده اليمنى تلك الذراع الملوِّحة ، سقطت ريحانة على الأرض مغشيا عليها ، وعندما شاهدها الكرسوع نزل من العمارة مسرعا وقام برشها بالماء حتى أفاقت ، وضم والدته إليه ومسح على رأس أمينة :
ــــــ ليش يا محمود سويت كذا وفجعتنا عليك ؟
ـــــ هههه كنت أمزح معكم .. أبغاكم تعتقدوا إن المارد قتلني ثم أظهر لكم فجأة .
التف الكل حوله مهللين مكبرين وأمطروه بوابل من الأسئلة .
ـــــ قل لنا يا كرسوع كيف انتصرت على المارد ؟
ـــــ ها .. كيف كان شكله أكيد يخوف ؟
ــــــ والله برافو عليك يا كرسوع تحديت الجني وانتصرت عليه !
وهنا رد عليهم الكرسوع :
ــــــ يا جبناء .. ويا خوافين .. هذا هو المارد
ــــــ كيف .. مافهمنا
ــــــ كل الحكاية أن هذي القطعة القطنية من القماش تركها أهل العمارة في البلكونة مع بقايا الأثاث المستعمل الذي لم يعد ينفعهم ، ومع هبوب رياح ( الأزيب ) الجنوبية قامت بدفعها للجهة الشمالية ، وبدلا من أن تقع على الأرض تحت العمارة نشبت في سيخ الحديد البارز من عمود البلكونة المكسور ، وكانت كلما هبت الريح من الجنوب تدفع هذه القطعة إلى الفراغ في جهة الشمال فتظهر كأنها ذراع بيضاء تلوح للناس ، بس هذي الحكاية كلها ولا نقار ولا مارد ولا يحزنون ، صفق الجميع تحية للكرسوع ، وانفض ذلك التجمع والبسمة ترتسم على الوجوه ، وعادت مسكة إلى منزلها وهي تجر أذيال الخيبة .

يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-04-2021 01:51 AM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg



كان الكرسوع قد حضَّر مفاجأة خطيرة لمسكة تجعل قلبها ينخلع من مكانه ، وكانت المفاجأة عبارة عن خمس شدات من ( الشُّحَّات ) ، ووجد أن ذلك اليوم مناسب للتنفيذ ، صعد الكرسوع أعلى سقف منزله وانتظر حتى رأى مسكة تدخل مكان الاستحمام فنزل مسرعا واندس خلف جدارها بالقرب من مكان استحمامها ، وعندما تأكد أنها بدأت تستحم أشعل شدات الشحات ورماها من فوق الجدار على مكان الاستحمام وانسحب سريعا إلى داره ، تفجرت الشدَّات في أرجاء المكان محدثة فرقعات قوية جعلت مسكة تخرج عارية من مكانها وهي تصرخ مثل المجانين وقد أصيبت ببعض الحروق .
في العيادة خرج العم محمود من استرخائه وارتحالاته قائلا للمرضة :
ـــــــ يا بنتي المسألة طولت كتير .. وأنا تعبت من كُتر الجلوس .. وما أقدر أتحمل الجلوس الطويل خاصة وأنا عمري صار فوق السبعين .
ـــــ يا عم ما بيدي شيء .. الدكتور مشغول وأنت قلت إنك بتنتظره للعصر .
نظر إليها العم محمود بتجهم ثم عاد لاسترخائه وارتحالاته من جديد . .


يتبع .... الفصل الثامن

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





بُشْرَى 09-04-2021 07:41 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 
.

.

وتتراقص اللغة بين يديك ..
وتأخذ شهقة الغنج ..
والدلال له حظٌ أن يرتسم على خاصرتها ..
الغيث ..
مرحى بكفّك التي تصنع الأبجد ذات القوام الرشيق .

متابعــــــــــــــــــــــــة ..

الغيث 09-04-2021 08:55 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بُشْرَى (المشاركة 109982)
.

.

وتتراقص اللغة بين يديك ..
وتأخذ شهقة الغنج ..
والدلال له حظٌ أن يرتسم على خاصرتها ..
الغيث ..
مرحى بكفّك التي تصنع الأبجد ذات القوام الرشيق .

متابعــــــــــــــــــــــــة ..

ولي عظيم الشرف بمتابعتكِ
يا ابنة الضاد
flll:flll:flll:flll:

الغيث 09-05-2021 10:13 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg


الفصل الثامن


واصل الكرسوع عمله في ( المعداية ) وقد كبرت مسؤولياته وتعددت مشاغله ، لا سيما وأنه قد أصبح مشرفا عاما على بضائع الباجلي بدلا عن محجوب ، حيث أضيفت إليه مهمة الإشراف على الحبال والأخشاب والتوابل مع الأسمنت ، فبات يعمل بكل طاقته ؛ لرد الجميل لعمه الباجلي ، بعد أيام نزلت من البواخر شحنة أخشاب كبيرة من نوع ( البورتي ) المتين والمستخدم في تشييد أسقف المنازل الشعبية ، وهذا النوع من الخشب يستورد من الهند ، وعندما تسلمها الكرسوع حسب الأوراق الرسمية المرفقة ، وجد أنها مقسَّمة بين التاجرين ( الباجلي ) و ( الرعيني ) ، وكان الحسيبي قد حجز كمية من الخشب الخاص بالرعيني واتفق معه على شرائها من الميناء مباشرة ؛ نظرا لتكلفتها الأقل ، وبعد إنزال تلك الأخشاب من المراكب إلى رصيف الميناء ، وفصل ما يخص كل تاجر على حدة ، حضر الحسيبي ؛ لتحميل خشبه وبيده أمر استلام من التاجر الرعيني ، وكان الكرسوع يلاحظ تصرفات الحسيبي من بعيد ويراقبه بكل حذر ويقظة .
بعد أن حمَّل الحسيبي خشبه على العربات التي أحضرها وجد فراغا في إحداها ، فحاول مغافلة الكرسوع مستغلا انشغاله بالإشراف على إنزال شحنات التوابل ، محاولا أخذ بعض الأخشاب مما يخص الباجلي وتحميلها في العربة التي يوجد بها فراغ ، لكن الكرسوع لمحه فهرول إليه في عجل مصطحبا معه اثنين من العمال ؛ ليشهدوا على تلك السرقة ، آمرا الحسيبي بإعادة الأخشاب إلى مكانها ، وحينها وقع شجار عنيف بين الكرسوع والحسيبي تبادلا على إثره التقريع والسباب ، ثم قام الكرسوع بإبلاغ الباجلي عن تلك السرقة الجديدة طالبا منه تعيين مساعدا له ؛ لعدم مقدرته الإشراف على كل البضائع ، قام الباجلي بتعيين مساعديين اثنين للكرسوع ، حدثت تلك الواقعة في منتصف شهر شعبان 1377 ه ، وبعدها تتابعت الأيام دون أية منغصات حتى نهاية شهر رمضان ، حيث كان الجميع على موعد مع إجازة العيد واستلام مرتباتهم .
في صباح يوم العيد كان الكرسوع في قمة سعادته ، فهو يشعر بالابتهاج والنصر وتحقيق شيء من أمانيه ، فقد ترقى في عمله ، ونغَّص حياة مسكة ، وانتصر على الحسيبي وأوقعه في شر أعماله ، وأثبت للكل بأنه رجل الغد الذي لا يشق له غبار ، وبعد انتهاء الزيارات المتبادلة بين الأصدقاء للتهنئة بالعيد ، اتفق مع صديقه محبوب أن يحتفلا بهذه المناسبة العظيمة احتفالا من نوع خاص ، فقد قررا شراء شيء من نبات القات والاستمتاع بمضغه في جلسة معتبرة تستمر حتى منتصف الليل ، كان سوق القات عبارة عن عريشة من الدوم والخسف في شمال غرب ساحة الميدان ، وجوارها بعض المطاعم الشعبية والمقاهي ، يجلس تحت تلك العريشة بائعو القات ـــــ قبل أن يتم منعه من قبل الحكومة ــــــ لعرض بضاعتهم للمشترين ، وحين دخل الكرسوع وصديقه إلى تلك العريشة هالهما ما يشاهدان ، فالمكان صاخب بالحركة والازدحام والنداءات ، فهذا يعرض ما عنده ، وذاك ينادي على بضائعه ، وآخر يستعرض الأنواع الفاخرة لديه ، ولاحظا أن بعض البائعين يكثر عندهم الزحام عن غيرهم ، فعرفا أن أولئك هم المشهورون في السوق ، فمنهم ( امنحافي ) الذي يقوم ببعض الحركات الأرجوزية ؛ للفت أنظار زبائنه ، ومنهم ( الحنبوش ) الذي يصدر هديرا كهدير الجمل ، وكذلك ( عيسى الحِمش ) الذي يطلق قهقهات تهتز لها أركان السوق ، وكل تلك الحركات التي يقومون بها تعتبر كدعاية تسويقية ؛ لتصريف ما لديهم من أغصان القات ، ولعدم خبرتهما قاما بشراء شيء مما توفر أمامهما ، ثم انصرفا لترتيب وجبة الغداء الشعبية المرتبطة بتلك العادة ، وعلى رأس أصنافها ( المَرْسَة ) و( المُقْلَى ) والحُلْبَة ، وعند الثالثة ظهرا ـــــ بتوقيتنا الحالي ـــــ كانا يتربعان على ( مُتَّكأيهما ) وكأنما حيزت لهما الدنيا وما فيها ، وكلما ازدادت نشوة القات حلَّق كل منهما في عوالمه وأحلامه ومشاريعه وأمانيه ، ولربما أوصلهما مفعول القات إلى آفاق الفضاء :
ـــــ محبوب مالك كذا ساكت ؟
ــــــ مدري والله يا محمود ، أحس إني طاير فوق فوق !
ــــــ وفيان شتصل ؟
ـــــ أبغى أشتري لي أرض في البر ، وأعمل فيها مزرعة كبيرة ، وأربي فيها أغنام ودجاج وبط .
ـــــ يا سلام !
ــــــ ونفسي أربي فيها غزلان وأشتري لي حصان .
ــــــ أوووه حصان مرة وحدة ! وماهو شتسوي به ؟
ــــــ أركب عليه وأتمشى في الأزقة والشوارع والناس تنظر لي بإعجاب .
ـــــ عجييييب !
ــــــ وأنت يا محمود ماهو شتسوي ، أشوفك مبحجر وترشح وتغرف من ذا الهرج ؟
ــــــ صادق والله ، مدري إيش اللي حصل لي ، مافي إلا أهذر هذر وعيوني مفنجلة ، وأحس بقلبي يدق بقوة !
قبل انتهاء فترة التخزين طلب محمود من والدته تحضير براد منعنش من الشاي ودلَّة من القهوة الفاخرة ، ثم أفرغ كل منهما ما في فمه ، وشرعا في ارتشاف فناجين القهوة أولا ، ثم أردفا بكأسات الشاي ، وهنا ازدادت نشوتهما ، وأصيب محمود بحالة من الصمت وتصبب العرق :
ـــــ مالك يا محمود صامت ؟
ـــــ أفكر .
ـــــ في إيش ؟
ـــــ جتني فكرة ، بدل المزرعة حقك اللي بتسويها نشترك أنا وأنت ونبني عمارة مكونة من ثلاثة أدوار ، وكل دور فيه شقتين ونقوم بتأجيرها .
ـــــ عمااارة !
ـــــ أيوه يا محبوب ، وبنصير أغنياء .
ـــــ كيف ؟
ــــــ شوف لو أجرنا كل شقة بـــ 200 ريال نحصِّل في الشهر 1200 ريال ، وفي السنة 14 ألف ، وفي سنتين 28 ألف ، و .. و .....


يتبع .....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-05-2021 10:16 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg



ودَّع محبوب صديقه محمود وتركه لحساباته اللامحدودة ؛ ليصبح ثريا ، أما الكرسوع فلم ينم في تلك الليلة وأرق أرقا شديدا ، وأخذ يخرج من المنزل ثم يعود إليه سريعا ثم يخرج منه مرة أخرى ، في حالة واضحة من القلق والضجر ، وهنا سألته والدته :
ــــــ مالك يا محمود ؟
ــــــ مش عارف يا أمي ، أحس بضيق في صدري وحرارة في جسمي .
ــــــ صليت المغرب والعشاء ؟
ـــــ مع الأسف لا ، هو القات يخلي الواحد يصلي !
ـــــ طيب قوم دحين وصلي .
ــــــ حاضر يا أمي .
وبعد أن فرغ الكرسوع من صلاته أخذ قليلا من الفصفص وعلبة سجائره وكشافه اليدوي وخرج ليجلس على تلك الصخرة التي اعتاد الجلوس عليها في طرف زقاقهم ، وهنا أقبل صديقه محبوب :
ــــــ هلا محبوب ، أشوفك رجعت لي !
ــــــ والله يا محمود قلقان ومش قادر أنام ، شوف الساعة صارت الواحدة في الليل واحنا ما رقدنا !
ــــــ طيب خذ لك شوية فصفص واتسلى بها .
ــــــ ما عندي رغبة ، نفسي ضاجة ومسدودة ، ولا عاد باقي مزرعة ولا غزلان ولا حصان !
ــــــ ههههه ولا عمارة من ثلاثة أدوار .
ــــــ ما بقي إلا الكرب والنكد والسهر !
ــــــ والله يا محبوب إنها مشكلة كبرى ، ندفع اللي في جيوبنا ، ونرهق نفوسنا ، ونضر قلوبنا ، ونغضب ربنا ، ويسري نومنا ، والسبب هذا القات !
ودع محبوب صديقه محمود عائدا إلى منزله بعد أن تبخرت تلك الأحلام ، وتلاشت كل المشاريع التي بنيت على أساس افتراضي بعيد عن الواقع ، بينما بقي الكرسوع جالسا على تلك الصخرة يضرب أخماسا في أسداس .
كان السكون والظلام يخيمان على الحارة ، والكل يغط في نوم عميق ؛ لأن تلك الليلة هي أولى ليالي العيد ويطلق عليها محليا بــــ ( اليتيمة ) وفيها يخلد الكل للنوم مبكرا ؛ بسبب السهر المتواصل في ليالي شهر رمضان ، كان الكرسوع لا يدري ماذا يفعل ، يخرج إلى الزقاق ثم يعود إلى البيت ثم يخرج مرة أخرى ، وأخيرا استقر فوق صخرته المعتادة في طرف الزقاق برفقة أشيائه ، متأملا ذلك الظلام الدامس الذي لا تكاد ترى شيئا من خلاله ، وبينما هو كذلك سمع صوت صافرة رجل العسة العم ( فتح الله ) قادما من أطراف السوق القريب من موقعه ، كان رجل العسة فتح الله يطلق أصوات صافرته على فترات متقطعة ، وبين كل فترة وأخرى يصيح : شايفك .. شايفك .. وهو أسلوب يلجأ إليه عندما يحس أن ثمة شيء غير طبيعي أو تحركا مريبا يحدث على مسافة منه ، أدرك الكرسوع أن في الأمر شيء ، وهم بالذهاب إلى مكان تواجد فتح الله ؛ لمعرفة السبب ومساعدته إذا لزم الأمر ، وقبل وصوله للمكان أحس بحركة شخص ما يتلصص بين المساكن المجاورة ، فصوب كشافه عليه فإذا هو شخص ملثم قصير القامة يركض هاربا ، قام الكرسوع بمطاردة الملثم بين الأزقة محاولا الإمساك به ، لكنه اختفى في الظلام ، ذهب الكرسوع إلى مكان تمركز العم فتح الله فلم يجده فأصابه بعض القلق والشك فقام بالبحث عنه بين الأزقة مستخدما كشافه اليدوي ، فإذا به يجده ملقى على الأرض مضرجا بدمائه وأثر ضربة شديدة على رأسه ، فقام بإبلاغ الشرطة .

يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-05-2021 10:18 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg



بعد صلاة الفجر كان الخبر قد انتشر في كل مكان ، وخرج ( مقبول ) البَنَّاء من المسجد وهو يقول :
ــــــ أنا شفت الكرسوع يجري بسرعة في زقاقنا بعد نص الليل .. وقتها كنت رايح مع أختي عشان نجيب المولِّدة ( حميدة ) لأن زوجتي كانت في حالة ولادة .
وهنا تذكر الناس واقعة السيدة ( حزيمة ) بائعة العيش الحامض التي توفيت لاحقا ، ووجد الكرسوع نفسه أمام تهمة أخرى ، وعندما حققت معه الشرطة أخبرهم بما حصل ، لكنهم أوقفوه على ذمة التحقيق ، ريثما تصلهم تقارير الطب الشرعي عن حالة ( فتح الله ) ، هنا وجد بعض المغرضين فرصة في محاولة إقناع الناس بأن الكرسوع هو الجاني في كلتا الحالتين ، إلا أن الشرطة أفرجت عنه بكفالة ( أحمد المطوع ) مؤذن المسجد ؛ لعدم كفاية الأدلة ضده ، وكذلك لعدم تطابق الآثار الموجودة في مسرح الواقعة مع الكرسوع ، أما فتح الله فقد دخل في غيبوبة ؛ نتيجة لضربة قوية تلقاها من ذلك الشخص المجهول .
في الأول من شهر ذي القعدة 1378 ه كانت المدينة على موعد مع حدث طال انتظاره كثيرا ، حيث تم افتتاح محطة الكهرباء والشروع في إدخال الخدمة الكهربائية إلى المنازل ، ولأن أغلبية السكان كانوا من البسطاء فقد صاحب دخول هذه الخدمة توجس كبير من مخاطرها ، والتي وإن كانت حقيقة إلا أنها أُلبست بالكثير من المبالغات والإشاعات ، مما جعل التصرف الأسرع للسكان حين حدوث حريق أو مشاهدة دخان هو فصل ( القاطع ) الموجود في أول جزء من المسكن الذي كان يطلق عليه محليا بـــ ( السَّكِّينة ) ، حتى وإن كان ذلك الحريق أو الدخان في حارة أخرى .
في صبيحة يوم الثلاثاء من شهر شوال 1381 ه كان الكرسوع يتناول فطوره في مقر عمله بالميناء عند الساعة العاشرة ـــــ تقريبا ـــــ حينها شاهد أدخنة سوداء كثيفة تتصاعد من وسط حارته ، فدب الخوف والقلق في قلبه ، فقام على الفور بتأمين عمله ثم انطلق مهرولا نحو الحارة ، وما أن اقترب حتى وجد تلك الأدخنة قد غطت الحارة ؛ لكثافتها ، وشاهد نساء الحارة وكبار السن قد خرجوا من منازلهم يحملون أغراضهم الثمينة ويتجهون نحو البحر وهم يتنادون :
ــــــ قفِّلوا السَّكاكين .. الكهرباء حِرقت .. والحارة راح تحرق معها .
كان الكرسوع قلقا على والدته وعلى ريحانة وأمينة فتقدم وسط تلك الأدخنة وهو يسعل ويكاد يختنق ، فإذا بمسكة تقود والدتها العمياء متجهة بها نحو البحر ، وحين رأته قالت له :
ــــــ الحق أمك وصاحباتك الثنتين ( تقصد ريحانة وأمينة ) .
تقدم الكرسوع قليلا فإذا به يرى والدته وأمينة تساعدان ريحانة على حمل والدتها ؛ لإخراجها من الحارة قبل أن تختنق وتموت ، وتوافد إلى الحارة الكثير ممن كانوا في السوق الرئيسي ؛ لقربهم من مكان الحريق ، شرع الكرسوع يخفف من روعة الساكنين ويخبرهم بأن ذلك مجرد حريق عادي وليس له دخل بالكهرباء ، ثم أخذ والدته وأمينة وريحانة وخالته شرف إلى زاوية بعيدة عن مسار الأدخنة ، ريثما يتصرف الرجال الحاضرون ويحاولون إطفاء ذلك الحريق .
حاول الحاضرون إخماد الحريق ولكنه كان أكبر من استطاعتهم وإمكانياتهم ، مما استدعى إبلاغ الدفاع المدني الذي حضر بعرباته وآلياته ولكنه لم يستطع الوصول إلى مكان الحريق ؛ بسبب ضيق الأزقة ، فاضطر للتوقف في بداية شارع الجمالة ومد الخراطيم لمسافة تزيد عن ثلاثمئة متر ، ثم شرع رجال الإطفاء مباشرة الحريق مستخدمين المياه وطفايات البودرة حتى استطاعوا السيطرة عليه وإخماده .
كان التاجر الكبير ( با صديق ) قد اشترى بعض البيوت الشعبية القديمة من أصحابها عن طريق الدلال ( علي النونو ) وقام بهدمها لإنشاء عمارة مكونة من ثلاثة أدوار من المسلَّح ، فكانت علامة فارقة ومميزة في الحارة ، وبعد اكتمال الهيكل الخرساني طلب الباجلي من المقاول عمل طبقة عازلة من الزفت للسطوح قبل وضع البلاط ، ونظرا لعدم خبرة العمال في التعامل مع براميل الزفت المتجمد ، وضعوا كمية كبيرة من الأخشاب تحت البراميل وأشعلوا النار فيها ؛ لتحويل الزفت إلى الحالة السائلة مما جعل اللهب يصعد للأعلى ويلامس فوهة تلك البراميل فاشتعلت جميعها محدثة حريقا هائلا .


يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-05-2021 10:20 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg



كانت السيدة ( شرف ) تعيش مع والدها ( عبد الله الحازي ) في الحارة ، وكان يعمل خبَّازا في أحد الأفران الشعبية في منطقة الميدان ، وعندما تقدم به العمر فقد بصره ؛ بسبب تعرضه الدائم لحرارة الفرن ، فأصبح عاجزا عن العمل ، وحينها تعلَّمت ابنته ( شرف ) مهنة ( الخِضاب ) وأتقنتها وأصبحت تقوم بالنقش على كفوف النساء في المناسبات والأعياد وتحصل من ذلك على دخل لا بأس به تنفقه على نفسها ووالدها المقعد ، في جانب آخر كان النقيب ( الغابري ) أحد أفراد كتيبة القوات المسلحة المرابطة في مدينة جيزان من أكفأ العسكريين بشهادة قائده ، ونظرا لخلقه الرفيع وتواضعه وسيرته الاجتماعية الكريمة فقد كوَّن علاقات حميمة مع بعض رجال المدينة ، يتسامر معهم ويتبادل الزيارات الودية معهم ، وذات مرة أسرَّ إلى بعضهم بأنه يرغب الزواج من إحدى بنات المدينة ؛ نظرا لعدم موافقة زوجته الأولى بالمجيء معه إلى جازان وبقيت مع أبنائها في الحدود الشمالية ، فأشاروا عليه بالسيدة ( شرف ) وأفهموه بوضعها فوافق على ذلك ، ثم قاموا بزيارة والدها وحدثوه في الموضوع ، وعندما أخذ رأي ابنته وافقت بشرط أن تبقى في دارها ؛ لرعاية والدها ، وأن تستمر في عملها ، وافق النقيب ( الغابري ) على شرطها وتم عقد القران وعاش معها سنتين رزقا خلالهما بمولودة جميلة هي ( ريحانة ) ، وبعد السنتين جاء نقله إلى الحدود الشمالية ، وبقيت شرف مع والدها ترعاه وتقوم بتربية ابنتها ريحانة ، وبعدها تدهورت حالة والد شرف ، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى ، وبقيت هي في دارها ترعى طفلتها ريحانة .

يتبع .... الفصل التاسع

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





بُشْرَى 09-07-2021 11:40 AM

رد: الكرسوع ( رواية )
 
.

.

نتابع للألق المتفرّد ..

قمة الاستمتاع ..

بورك الفكر وجمّ الأدب

الغيث 09-08-2021 10:50 AM

رد: الكرسوع ( رواية )
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بُشْرَى (المشاركة 111394)
.

.

نتابع للألق المتفرّد ..

قمة الاستمتاع ..

بورك الفكر وجمّ الأدب

يكفيني حضورك الرائع يا بشرى
ليبعث في روحي جذوة الاستمرار
دمتِ لي نبراسا يهديني إلى الطريق الصحيح
وحفظ الله نبضك لنا لنحيا به زهرة الأيام
عاطر تحياتي وأمنياتي
يا زهرتنا الجميلة
>::>::

الغيث 09-09-2021 09:40 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg


الفصل التاسع


في نهاية 1381 ه كان الكرسوع قد تجاوز الثانية والعشرين من عمره ، وقد تمت ترقيته من قبل الباجلي إلى أمين مستودعاته مع زيادة مرتبه الشهري ، مما حدا بالكرسوع لتشييد صندقة من الخشب والزنك وشراء أدوات نجارة ؛ ليقوم بتدريب صبيان الحارة المحتاجين مجانا ، كخطوة إيجابية ، وبادرة حسنة منه لأهالي الحارة ، وغيرهم من أبناء بقية الحارات ، ولا يبتغي بها إلا وجه الله ، وفي عصر ذات يوم لمحت مسكة صبيا يتيما يخرج من صندقة الكرسوع وهو يعرج قليلا ، وشاهدت على سرواله بقعة حمراء من الخلف فشَكَّت في الموضوع ، واستيقظ شيطانها ؛ لتلفيق تهمة جديدة للكرسوع ، حيث طافت على نساء الحارة تخبرهم بأن الكرسوع قد عمل شيئا مشينا في الصبي وتوصيهم بعدم السماح لأبنائهم بالذهاب إليه ، وعندما وصل الخبر لوالدة الصبي ذهبت على الفور إلى دار مسكة ودخلت في خصام شديد معها ، ووقع عراك بينهما ، واجتمع أهل الحارة وهي تشتم مسكة بأقبح الأوصاف وتقول :
ــــــ ولدي أشرف منك يا .... والكرسوع أشرف منك ومن قبايلك .. وكل الحكاية أنه دعس على مسمار لاطي في لوح خشب .. وأجا عندي يعرج عشان أداويه .. وأما البقعة الحمرا اللي في سرواله فهو لون أحمر من حق المدرسة ما رضي يطلع مع الغسيل .
وهنا تدخل الكل لحل الخلاف وتوبيخ مسكة على سرعة شكها في كل أمر .
وبعد أيام وقعت حادثة اختطاف الطفلة ( نور ) بنت المطلقة ( شريفة ) من أمام باب دارها الكائن في أطراف حارة الكرسوع ، وذلك بعد أن اشترت قطعة من ( المُجَلْجَل ) من العم ( صابر ) .
في مساء اليوم التالي لحادثة الاختطاف كانت جلسة الكرويت ساخنة جدا ، حيث سيطرت عليها أحداث اليمن والتوقعات بقرب قيام الثورة اليمنية ، والقلق من تداعياتها الخطيرة على المنطقة ، وهنا اخترق ( عبده أنتل ) تلك النقاشات قائلا :
ــــــ يا جماعة فُكُّونا دحين من مشاكل اليمن وخلونا في مشاكلنا احنا .
ــــــ مشاكلنا ؟؟؟
ــــــ أيوه .. مشاكل الكرسوع .. والسرقات اللي دائما تقع في الحارة .. وضرب العم فتح الله .
ــــــ يا أنتل .. الشرطة قايمة بواجبها على ما يرام .. وقد حققت في الوقائع كلها ولم تجد دليل واضح ضد الكرسوع .
ــــــ أيوه .. لأنه إنسان مراوغ وذكي وخداع وما يترك أثر لأفعاله .
ـــــــ طيب إيش تبغانا نسوي مثلا ؟
ــــــ أي حاجة .. إن شاء الله نطرده من الحارة .. ولاَّ حتى من المدينة كلها .
ــــــ معقول يا أنتل .. تطرد ابن حارتك وبلدك من دون وجود أي دليل عليه !!
ــــــ طيب والطفلة اللي خرجت أمس من عند أمها وانخطفت بعد ما اشترت مجلجل من صابر ؟
هنا تدخل القمَّاش :
ــــــ فين أنت نايم يا أنتل .. الطفلة قد رجعت لأمها من البارح في الليل .
ــــــ هه .. كيف .. ومين اللي رجعها ؟
ــــــ الشرطة هي اللي رجعتها .
ــــــ كيف ؟
ــــــ استدعوا الكرسوع والبائع صابر ووالدة الطفلة ، وعند التحقيق ذكر البائع صابر أوصاف الرجل الذي خطفها ، ولما سمعت والدتها تلك الأوصاف عرفت أنه طليقها .
ـــــــ وبعدين ؟
ــــــ استدعوه وحققوا معاه .. وعرفوا أن بينهم مشاكل وأن المحكمة قد حكمت لأمها بالحضانة .. والأخ اشتاق لبنته وما عرف إيش يسوي قام خطفها .
في العيادة خرج العم محمود من استرخائه وارتحالاته على صوت الممرضة تنادي على الرقم الأخير في الانتظار ، فقال : الحمد لله قرَّبنا ، ثم عاد مجددا لاسترخائه وارتحالاته محركا يديه وجسده وكأنه يرقص على بعض الأنغام آخذا في الترديد داخله :

يا حلو يا مسليني ياللي بنار الهجر
كاويني
املا المُدام يا جميل واسقيني
من كثر شوقي عليك ما بنام
طلوا من الشُّبَّاك وشافوني
قلت لهم عطشان واسقوني

ثم ما لبث أن تساقطت الدموع من عينيه وهو يتذكر تلك الأحداث المؤلمة التي مرت به أيام شبابه وفتوته والتي تركت جرحا غائرا في قلبه لن يندمل بسهولة ، تلك الأحداث التي صاحبت تفجُّر ثورة اليمن ( 1962 م ) إثر المحاولة الأخيرة لاغتيال الأمام أحمد في مستشفى الحديدة ، تلك الثورة التي تأثرت بسببها العلاقات السعودية المصرية ، لوقوف الجمهورية العربية المتحدة مع عناصر الثورة ودعمهم ، وعلى إثر ذلك تعرضت الحدود والمناطق الجنوبية من المملكة لإغارة الطيران المصري عليها .

يتبع .....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-09-2021 09:44 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg



كان الكرسوع لا يزال في عمله أمينا لمستودعات الباجلي ، وفي ليلة من ليالي تلك الأيام المقلقة كان الكرسوع يحضر حفلا أقامته إحدى المدارس في فناء مبنى ( دار الأيتام ) بمدينة جيزان ، وعند منتصف الحفل حلَّقت إحدى الطائرات المصرية ، ثم قامت بإلقاء القنابل الضوئية على المدينة للتصوير والاستكشاف مما حوَّل سماء المدينة إلى اللون البرتقالي المائل للاحمرار ، وبما أن سكان المدينة لم يشاهدوا تلك القنابل من قبل فقد دب في قلوبهم الخوف والذعر من ذلك المشهد المخيف معتقدين أن سماء المدينة تلتهب ، وهنا حدثت حالة من الهلع والاستنفار ، وهرع الحاضرون إلى بوابات الخروج التي لم تستوعبهم دفعة واحدة ، ووقعت إصابات لبعضهم ؛ نتيجة التزاحم والتدافع على تلك البوابات ، ولقفز البعض من فوق أسوار المبنى ، وأسرع الكرسوع إلى الحارة للاطمئنان على والدته وبقية الجيران فوجد الناس على أبوابهم الخارجية يصرخون : ( حِرِقْنا .. حِرِقْنا ) ، ويريدون الهرب ولا يعلمون إلى أين يذهبون وماذا يفعلون ، طلب منهم الكرسوع الدخول إلى منازلهم والاختباء تحت السرر الشعبية ( القعائد ) ؛ تحسبا لأي قصف محتمل ، وبعدها بفترة وجيزة غارت المقاتلات الحربية وألقت بقنابلها على مرسى الصيادين الواقع شمال المدينة ، في حين كانت المضادات الأرضية السعودية تتصدى لتلك القاذفات بكل بسالة .
وفي الصباح خرج الكرسوع مع رجال الحارة وذهبوا للمنطقة التي ضُربت ليلا ؛ ليجدوا أشلاء قوارب الصيادين الخشبية قد تناثر بطول مساحة المرسى .
تتابعت الغارات المصرية بعد ذلك على فترات متقطعة ، بعضها كان يستهدف المدينة والبعض الآخر كان يُسمع دوي انفجارات قنابلها على القرى الحدودية جهة الموسَّم والطوال ، وفي ظهيرة أحدى الأيام سمع الكرسوع أصوات طائرات تجوب أجواء المدينة فأغلق مستودعاته وهرع راكضا إلى الحارة ، فإذا بالصبي ( إسماعيل ) ابن ( أمينة ) واقفا على باب دارهم يرقص ويهتف مبتهجا بمنظر تلك الطائرات وهي تحلق في الأجواء ، كمشهد نادر شدَّ طفولته البريئة لتستمتع به ، وهو لا يعلم ما وراء ذلك من مخاطر ، حينها نهره الكرسوع وأخذه وأمه إلى دارهم واختبؤوا تحت السرر الشعبية ، بعدها بدقائق ألقت تلك الطائرات قنابلها على السِّباخ الواقعة شرق المدينة غير المأهولة بالسكان ، وهي تلك السباخ التي بات يشغلها الآن ( حي المطار ) ، حينها سرت شائعات بأن طياري تلك الغارات كانوا من أصحاب القلوب الرحيمة فأشفقوا على المدنيين الأبرياء وألقوا قنابلهم في تلك الأرض السبخة ، بعدها بأيام قامت البوارج البحرية المصرية بقصف القرى الحدودية والمدينة في نفس الوقت بواسطة المدافع الثقيلة ، وكان ذلك ما بين الواحدة والنصف ظهرا إلى الثالثة عصرا ـــــ بتوقيتنا الحالي ـــــ وقد سَمِع الناس دوي تلك القذائف قادما من الجهة الجنوبية الغربية ناحية البحر ، فخرج البعض لاستطلاع الأمر وشاهدوا تلك القذائف تسقط في مياه البحر محدثة نوافير كبيرة تصعد للأعلى ثم تعود للبحر ، وكان ذلك رحمة من الله بالمدنيين الأبرياء ، إذ كان تمركز تلك البوارج يبعد عن المدينة مسافة تجعل مدى تلك المدفعية لا يصل إلى منازل المدينة ، فتسقط القذائف في البحر بالقرب من المدينة ، أما في القرى الحدودية فقد أحدثت دمارا كبيرا في المساكن والأنفس ؛ لقرب الأهداف منها .
ازدادت انفعالات العم محمود وتساقطت دموعه بغزارة وهو يتذكر ما حدث في ذلك الصباح من أيام تلك الفترة ، حيث كان أغلب الناس لا يزالون يغطُّون في نومهم مستلقين على تلك ( القعائد ) المرصوصة في طراريح منازلهم ، حينما سمع ـــــ وهو في شبه حلم ــــ أزيز طائرة تجوب أجواء المدينة ، وعندما فتح عينيه وجدها حقيقة ، كانت تلك الطائرة تحلق على ارتفاعات عالية ؛ للاستطلاع والتمهيد لغارة جوية مرتقبة ، في حين كانت المضادات الأرضية توجه نيرانها الكثيفة صوب تلك الطائرة ، فأيقظ والدته وهرعوا لداخل مجلسهم للاختباء ، وفجأة ظهر سرب من الطائرات القاذفة على ارتفاع منخفض جدا وألقت قنابلها على أجزاء واسعة من حارة الساحل ، وحين دوت أصوات انفجارات تلك القنابل على منازل الحارة كان الكرسوع يصرخ ويردد :
ـــــ يا ألله .. يا الله .. يا لطيف .. الطف بنا يارب .
ثم دوَّى صوت قوي ؛ نتيجة لانفجار إحدى القنابل قريبا من سقف داره ، مُحدثا ضغطا هائلا أدى إلى فتح بوابة المجلس على مصراعيها ، ودخول الأبخرة والأدخنة الناتجة عن ذلك الانفجار إلى داخل المجلس ، مما سبب له ولوالدته نوبة حادة من السعال والاختناق ، وبعد انتهاء الغارة وزوال الخطر خرج مع بقية رجال الحارة ؛ لتفقد بعضهم البعض فوجدوا الكثير من المنازل قد تضررت وهدمت منها أجزاء واسعة ، وأن هناك إصابات ووفيات ، وحين اكتشف أن من بين المتوفين حبيبته ريحانة وأمها أصابته صدمة قوية عاد على إثرها إلى داره وهو يجهش بالبكاء


يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-09-2021 09:46 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg



وحين رأته والدته سألته :
ــــــ ماذا حصل يا محمود ؟
ـــــ لقد توفيت ريحانة ووالدتها من ضمن من توفوا في الغارة .
ـــــ إنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ثم أخذت تخفف من روعه وصدمته ، وقالت له :
ــــــ قم يا ولدي فتوضأ واذكر ربك وهذا ما كتبه سبحانه وتعالى ، واخرج مع بقية الرجال لمساعدة الآخرين المحتاجين للمساعدة .
ــــــ حاضر يا أمي ، سوف أكفكف دموعي وأخرج .
خرج محمود ( الكرسوع ) وهو يغالب حزنه الشديد على فراق حبيبته ، وانضم إلى بقية الرجال ؛ للقيام بإسعاف المصابين ، وإيواء من تهدمت بيوتهم عند جيرانهم ، والمشاركة في دفن الوفيات ، وفي تلك اللحظات كان يلاحظ مع البقية وجود الكثير من الشظايا متناثرة في تلك الأزقة ، كما لاحظوا وجود بعض القنابل التي لم تنفجر ممددة على الأرض وبعضها فوق أسقف المنازل ، وحين عاد الكرسوع إلى منزله أخبر والدته بما شاهده :
ــــــ تصدقين يا أمي شفت القنابل اللي ما انفجرت بعيوني هذي .
ــــــ بالله !
ـــــ أي والله .. طول الوحدة يمكن متر ونص ، ولما فتحوها العساكر شفت فيها بارود وقطع حديد صغيرة ومسامير وزجاج .
ـــــ الله ستر عليكم منها .
تتابعت الأيام والكرسوع لا يكف عن النحيب ، فقد حزن حزنا شديدا على وفاة محبوبته ريحانة ووالدتها ، وأظلمت الدنيا في عينيه ، واستمر يبكيهما أياما طويلة ، وكان كلما مر من جوار دارهما المهدَّمة يبكي وينتحب حتى يكاد أن يسقط مغشيا عليه .
أمام ذلك الحزن الشديد استسلم محمود لحالة نفسية شديدة ألزمته الانعزال عن الناس وملازمة فراشه ، في الوقت الذي كانت والدته تجاهد في سبيل إخراجه من تلك الحالة .
طرقت جميلة معظم الأبواب ، وقامت بتبخير المنزل ــــــ حسب نصيحة بعض الجارات ــــــ بمادة ( الشبَّه والفارِعَه ) ، وبخَّرت ابنها محمود حتى كاد أن يختنق من كثافة الأدخنة المنبعثة من تلك المادة ، كررت ذلك ثلاثة أيام ولم يطرأ أي تحسن على حالة ابنها ، أحضرت السيدة حفصة معلمة القرآن في الكتَّاب ــــــ سابقا ــــــ وقرأت عليه لكنه استمر في حالته ، أخيرا ذهبت إلى والدة محبوب صديق ابنها محمود وحدثتها عن الحالة التي يعيشونها لعلَّ محبوبا يستطيع أن يفعل شيئا حيال ذلك الأمر .
رغم انشغال محبوب في بعض الإصلاحات التي أحدثتها الغارة بداره إلا أنه هرع على وجه السرعة إلى دار صديقه محمود مستأذنا من خالته جميلة ، ملقيا التحية عليهما ومخاطبا صديقه بلهجة المحبة وتلطيف الأجواء :
ــــــ إيش هذا الدَّلَع اللي مسويه يا محمود ؟
ــــــ مش دلع والله يا محبوب .. أنا حاس إني فقدت كل حاجة في هذي الدنيا .
ــــــ اذكر الله يا شيخ .. وولدتك .. وأهلك وأصحابك فين راحوا .
ــــــ صادق .. بس أنا حاس إني انتهيت خلاص .
ـــــ ولا بس ولا حاجة .. أنا معاك إن الصدمه شديدة .. لكن الانسان يسلم أمره لله .
ـــــ ونِعمَ بالله يا محبوب .. لكن هذي ريحانة .. تعرف يعني إيش ريحانة !
ــــــ استغفر الله العظيم .. عارف والله عارف وقلبي معاك .. هيا اذكر الله والبس وخلينا نروح البحر نشم شوية هوا ونغير الجو وربك بيعوضك خير .
ــــــ لا .. لا يامحبوب .. ما أبغى أخرج من البيت بالمرة .
وانفجر محمود باكيا في نحيب هستيري يُسمع نشيجه من الخارج .

يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-09-2021 09:50 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg



ذهب محبوب إلى الشيخ أحمد المطوع مؤذن المسجد لتدارس الأمر معه ، واتفق الاثنان على أن يحضرا لمحمود أحد المشايخ المتخصصين في الرقية الشرعية .
دخل الشيخ إلى مجلس محمود مسلِّما عليه ملقيا درسا قصيرا في العقيدة والإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره ، ثم وضع يده اليمنى على صدر محمود وشرع في قراءة آيات من كتاب الله ، وماهي إلا لحظات حتى أطلق محمود العنان لوجدانه بنوبة بكاء حادة تخللها التسبيح والحمد والاستغفار ، بعد خمسة أيام من الرقية بدأ محمود في التماثل للشفاء ، واستطاع الخروج برفقة صديقه محبوب أولا ، ثم بمفرده بعد ذلك .
وقبل أن تطيب أوجاع تلك الفجيعة كانت مدينة جيزان على موعد مع الضربة الأعنف والأشد والتي عرفت بــــ ( ضربة السبت ) ، كان المنظر مرعبا ومأساويا ومؤلما للغاية ـ قتلى وحرائق وأدخنة كثيفة وربكة عارمة في أوساط الناس ، وكان الكرسوع يهرول هنا وهناك مذهولا مما حدث وهو يردد :
ــــــ لا إله إلا الله ، ــــــ لا إله إلا الله ، ــــــ لا إله إلا الله .
وبرغم أحزانه البليغة إلا أن شهامته دفعته للعمل مع بقية الرجال لإسعاف المصابين ومساعدة المحتاجين ، جنبا إلى جنب مع تلك الجهود التي تبذلها الجهات المختصة في معاينة الأضرار ، وحصر الضحايا ، وتجميع الجثث ودفنها في مقابر جماعية ، في تلك اللحظات كانت قلوب الناس تنزف دما ، وأعينهم تفيض دمعا ، وعقولهم يكاد يصيبها الجنون من هول ما حصل .
اجتمع الكرسوع مع رجال حارته ـــــ بعد أن قرر معظم السكان النزوح من المدينة ــــــ خوفا على حياتهم ، واتفقوا على أن تكون وجهتهم جزيرة ( فرسان ) ، وعند حلول الظهيرة من ذلك اليوم المشؤوم شرع معظم السكان بالاستعداد للتوجه نحو القرى الشمالية ، أو الجزر القريبة من المدينة ، وبعد صلاة العصر أحضر كل من الكرسوع وبقية الرجال عربات تجرها الحمير لنقل أمتعتهم وممتلكاتهم الثمينة إلى رصيف الميناء ، تمهيدا لاستئجار أحد المراكب التي ستقلهم إلى جزيرة فرسان ، كان الميناء في ذلك المساء يعج بالنازحين من المدينة ، فيما أطلق على ذلك اسم ( الهَرْبَة ) ، اتفق الكرسوع وبعض رجال حارته مع صاحب الصنبوق ( المركب ) المُسمَّى بــــ ( الزَّاحي ) ؛ ليقلهم إلى الجزيرة مقابل مبلغ معين ، فيما شرع الباقون في تحميل الأمتعة على ظهر المركب ، ومع شروق شمس اليوم التالي كانت جميع الأسر قد استقلت تلك المراكب ؛ لتبدأ رحلة العذاب والمشقة ومواجهة المخاطر ، إذ أن تلك المراكب تعتمد في سيرها على الأشرعة واتجاه الرياح ، وتأخذ وقتا طويلا لقطع المسافة بين المدينة وفرسان فيما لو كانت الرياح عكس اتجاه السير .
بعد ساعتين ـــــ تقريبا ـــــ كان الصنبوق ( الزاحي ) قد وصل إلى منطقة الأعماق ، وفجأة انكسر ( الدَّقَل ) الحامل للشراع مما جعل المركب يميل ميلا خطيرا حتى لامس جانبه المائل مستوى البحر ، وبدأت مياه البحر تتدفق إلى داخل المركب .
تعالت الأصوات بالتهليل والدعاء والابتهال إلى الله أن يسلمهم من الغرق ، كان الكرسوع مرتبكا وهو يسمع صراخ النساء وبكاء الأطفال ودعاء الرجال ، ووجد أن الأمر يتطلب العمل الجماعي من أجل إنقاد المركب من الغرق بمن فيه وحدوث كارثة كبرى ، فانضم إلى اثنين من البحارة ومهمتهم إصلاح العطب في أسرع وقت ممكن ، وكلَّف بقية الرجال بتفريغ القارب من المياه التي تتدفق إليه ، كان الأمر يتطلب أن يصعد فرد إلى أعلى الدقل ؛ ليعيد الجزء المكسور إلى مكانه ثم يقوم بتثبيته تثبيا محكما بواسطة الحبال ، تم ترشيح الكرسوع للصعود فلفَّ حول بطنه قدرا كافيا من الحبال ثم تسلق وصعد للأعلى ، قام بفك جزء من أربطة الشراع المثبتة له في الدقل ؛ ليسهل له دفع الجزء المكسور للأمام ثم للأعلى وتثبيتها في مكانها الأصلي ثم القيام بلف قدْر من الحبال حولها بطريقة محكمة تحول دون ميلانها مرة أخرى ، وكان البحاران الآخران يساعدانه من على ظهر المركب بإرخاء الشراع ورفع الدقل للأعلى بواسطة الحبال وهم يرددون :

موجــــــــــة فـــــــوق موجــــــــــة
وفي امساعيــــــــة روجــــــة

وتمت العملية بنجاح واستعاد المركب شيئا من توزانه ، وبعد إفراغ المياه من باطنه عاد إلى اتزانه الطبيعي وتواصلت الرحلة ، لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن ، حيث تغير اتجاهها في الاتجاه المعاكس لخط سير الصنبوق ؛ مما جعله يسير ببطء شديد .


يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-09-2021 09:58 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg



استغرقت تلك الرحلة إلى جزيرة فرسان عشرين ساعة ـــــ تقريبا ــــ حيث وصلت إلى ساحل ( الخور ) قبيل الفجر بساعتين ، وتم إنزال الأسر وأمتعتهم على رمال الساحل مستعينين ببعض الأتاريك التي تعمل على الكيروسين ، كانت المسافة بين منازل فرسان وبين سواحلها المتعددة متباعدة ، بحيث لو انطلقت الجمال من المنازل إلى الساحل مع شروق الشمس فلن تصل إلى الساحل إلا عند الظهر ، كانت الأسر قد شيدت مظلات سريعة من بعض أغطية النوم والبطانيات ؛ لتقيهم أشعة الشمس وعندما وصلت تلك الجمال إلى الساحل حملتهم مع أمتعتهم وطفقت عائدة بهم إلى منازل الجزيرة ، كان الكرسوع يسير بجوار قائد الجمل الذي يحمل والدته وأمينة وإسماعيل ، وقبيل المغرب بقليل شاهد الكرسوع في الطريق عششًا من القش يسكنها أناس من ذوي البشرة السمراء الفاتحة ـــــ نسبيا ـــــ فسأل الجمال عنهم ، فقال له : هؤلاء هم ( العباسية ) ، بعد حلول الظلام كان الكرسوع يشاهد ضوءا بعيدا يبدو كمصباح ثم يختفي ، تارة يراه في جهة الشمال وأخرى في اليمين وثالثة خلفه ، وعندما سأل الجمال عنه رد عليه بأن ذلك هو ( المَغَوِّي ) الذي يتسبب في ضياع الكثير عن طريقهم الأصلية فيتوهون عنها ، وحيث أن توقيت ( الهربة ) كان موافقا لبداية الصيف و ( شَّدَّة ) الفرسانين في شهر مايو من كل عام إلى قرية ( القصار ) فقد كان اتجاه سير الجمال من ساحل الخور إلى القصار مباشرة ، وهناك أُستقبل الكرسوع ومن معه من أقاربهم ومعاريفهم بكل حفاوة وترحاب .
مكث الكرسوع في قرية القصار ثلاثة أيام ، تعرف خلالها على كثير من أصدقاء أقاربه هناك ، مستمتعا بأجوائها الجميلة ومائها العذب ونخيلها البواسق ، وآبارها وظلالها ، وأمسيات الغيوم ، وزخات الأمطار الموسمية ، معايشا طقوس جني الرطب في صباحاتها الباكرة ، وأجواء العاصف التي تبدأ ــــــ عادة ــــــ من بعد صلاة الظهر إلى قبيل المغرب بقليل ، ثم ودَّع أهله وعاد إلى مدينة جيزان ؛ لارتباطه بعمله ، أما والدته ( جميلة ) ومعها ( أمينة ) فقد أمضيتا أوقاتهما بالتأقلم على الحياة هناك ، بعد أن استأجر لهما الكرسوع منزلا متواضعا ، واتفق مع أحد السقايين ؛ لتزويدهما بالماء من الآبار القريبة .
ورغم ما وجدته جميلة ومعها أمينة من معاناة في الأيام الأولى لإقامتهما في القصار بسبب مسكنهما المبني من الحجر فقط ( دون مونة ) والمسقوف بالدوم والجريد مثل بقية المساكن في القرية ، وخوفهما من الثعابين والحشرات التي يكثر خروجها في فصل الصيف ، أضف إلى ذلك الخوف من الجن المسموع عنهم سواء في فرسان أو القصار في تلك الفترة من الزمن ، وكان خوفهما يشتد في المساء حين يسمعان حفيف رياح العاصف المتأخرة إلى ما بعد العشاء وهي تصدر هسهسات وشبه صفير عند مرورها من بين أفرع النخيل التي تكثر في الزهوبة المحيطة بمسكنهما المستأجر ، كذلك كان يفزعهما صرير الحشرات وأصواتها القادمة من بين أحجار المسكن والشقوق ، وتلك القابعة وسط شجر العَصَف والبِشام المتناثرة حول مسكنهما المستأجر ، بسبب موقعه المتطرف من القرية .
تعرفت جميلة على كثير من نساء فرسان وتبادلت معهن الزيارات ، وأمست تشاركهن اجتماعاتهن الليلية اللاتي يقضينها في تبادل الأحاديث الاجتماعية ونسج العجار والكرابيس والمفات وغيرها من المستلزمات المنزلية التي تنسج من سعف النخيل ، كما تحضر معهن مناسبات الزواج والختان التي تقام في شهور الصيف .


يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::





الغيث 09-09-2021 10:00 PM

رد: الكرسوع ( رواية )
 



*
الكرسوع

https://up.boohalharf.com/uploads/163100659352521.jpg



عاد الكرسوع إلى القصار بعد عشرين يوما ؛ ليتفقد أحوال أهله ، ومكث بها يومين زود فيهما والدته وأمينة بما يحتاجانه من المواد الغذائية التي جلبها معه من جيزان ، ثم أفهم والدته كيف تشتري السمك من البائع الذي يجوب أزقة القرية ويحمل فوق كتفه بواسطة عصا خشبية زنبيلا متسعا به الكثير من أسماك الشعور المتوسطة الحجم ، وخلال هذين اليومين أقام أحد أقارب الكرسوع وليمة غذاء على شرفه ، ذبح فيها غزالين من غزلان فرسان المشهورة ( قبل نظام المحميات ) ، ثم دعاه قريب آخر إلى سمرة ليلية جميلة في قرية المحرق القريبة جدا من القصار ؛ لحضور رقصة ( الدانة ) التي تتميز بها تلك القرية ، ثم عاد محمود إلى جيزان بعد أن منح والدته شيئا من النقود مصروفا لها ولأمينة وابنها إسماعيل ، وسط دعوات والدته له بالوصول بالسلامة وقلقها من رياح العاصف التي تسبب هياج البحر وارتفاع أمواجه وتشكِّل خطورة على المسافرين عن طرق البحر .
هدأت الأوضاع في المدينة نوعا ما ، وقامت إمارة المنطقة بالتعاون مع البلدية بإقامة حفل ثقافي ترفيهي ؛ لإعادة الأجواء إلى طبيعتها وطمأنة الناس وترغيب النازحين في العودة إلى ديارهم في المدينة ، وبعدها عادت معظم الأسر التي نزحت إلى القرى الشمالية ، تبعتهم الأسر التي اتجهت إلى فرسان ، وعادت الحياة إلى وضعها الطبيعي . .
كان الكرسوع قد بلغ الرابعة والعشرين من عمره ، وكان يرى أن أمامه مستقبلا غامضا لا يستطيع التنبوء بمكنوناته ، فشرع يُسيِّر حياته التي تعصف بها تلك الأحزان بالصبر والاحتساب ، آملا في أن يكون القادم خيرا بمشيئة الله ، ولذا صرف جل اهتمامه بوالدته جميلة التي تقدمت في العمر وبدأت تشكو من بعض متاعب الكبر ، ثم بعض الأعراض الغريبة التي داهمتها مؤخرا : كالسعال المتكرر والشعور بالاختناق في بعض الأحيان ، وكان الكرسوع يجلب لها بعض الأدوية بجانب الأطعمة الطازجة التي ترفع مناعتها مثل : اللحمة الحمراء المذبوحة في نفس اليوم التي يشتريها من محلات الجزارين في برحة الميدان ، والأسماك الطازجة التي يجلبها من مكان بيع الأسماك ( الخُمْس ) الواقع شمال الحارة الشامية بجوار مرسى الصيادين ، وفي أحد الأيام من منتصف عام 1385 ه كان الكرسوع يخترق أزقة الحارة مشيا على الأقدام في طريقه إلى منطقة ( الخُمس ) ، حينها كانت بلدية جازان تشرع في شق شارع ( الملك فيصل ) الذي يصل ساحل البحر في الغرب بمنطقة الميدان في الشرق ، ويفصل ما بين حارتي الساحل وجزء من البوري من جهة وحارة الشامية من الجهة الأخرى ، وحين خرج من الزقاق الأخير من حارة الساحل وجد المعدات قد باشرت هدم المنازل المنزوعة لصالح الشارع فاختلطت عليه كل المنافذ التي كان يلج عبرها إلى الحارة الشامية وصولا للخمس ، وبعد حيرة استمرت لدقائق اهتدى إلى زقاق كان يسلكه قبل فتح الشارع ، ثم عاد بشيء من الأسماك الطازجة ؛ ليساعد والدته في التخفيف من تلك الأعراض ، وفي نهاية العام نفسه بدأت تلك الأعراض تظهر على العديد من سكان الحارة .


يتبع ....

***

الغيث
حصري للمدائن
>::>::>::>::






الساعة الآن 08:58 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
مجتمع ريلاكس

Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

new notificatio by 9adq_ala7sas
دعم وتطوير نواف كلك غلا

1 1 1 2 2 2 3 3 3 5 5 5 6 6 6 7 7 7 8 8 8 10 10 10 11 11 11 12 12 12 13 13 13 15 15 15 16 16 16 17 17 17 28 28 28 30 30 30 31 31 31 32 32 32 37 37 37 38 38 38 39 39 39 41 41 41 44 44 44 45 45 45 46 46 46 47 47 47