عبدالعزيز
12-24-2021, 11:41 AM
وقفة على الأطلال :
هذه الخاطرة لم أكتبها بمداد قلمي بل كتبتها بقطرات دمي ودموع عيني بعدما مررت على بيتنا القديم فوجدته خاوٍ على عروشه فتأثرت وكتبت هذه الخاطرة :
أيها البيت الذي فيه نشأت وعلى ترابه درجت ووسط عراصه تقلبت أين بناؤك الشامخ وعزك الباذخ الذي لعبت به أيدي المنون وتصاريف الدهور .
ألم تكن قبل عقود قليلة ذلك البناء الذي ترنوا إليه الأنظار فما الذي دهاك حتى أصبحت ذكرى تذكر وأحاديث تروى وتاريخاً يكتب .
لقد كنت أرجو أن تكون ذكرى باقية بعد رحيلي وهأنذا أبقى ذكرى لأحدث عن ذكرياتي معك بعد رحيلك .
هل تذكر تلك الليالي والأيام الجميلة عندما كنت طفلاً آتي بصحبة ذلك الملاك الطاهر ونجلس عند النخلة التي اتكأت على أحد حيطانك بعدما عصفت بها رياح الشيخوخة نرقب غروب الشمس وأفول أشعتها الذهبية وعندما كنا نجلس تحت العريش نرقب المطر المتساقط .
وهل تذكر عندما كنت مع أترابي نرقب الطيور المهاجرة نحو الأفق البعيد .
وعندما كنا نرمي النخلة الهرمة بالحجارة لتسقط لنا الرطب فنأكله تحتها بين خرير الماء وتغريد الطيور .
يا لها من براءة نرميها ونؤذيها ثم نتفيأ ظلها ونأكل ثمارها .
وهل تذكر أولئك الشباب الذين عهدتهم كالأسود أصبحوا اليوم متنعمين متميعين قد آثروا النعومة على الخشونة .
وهل تذكر أولئك الناس الطيبين الذين يبذلون مهجهم وأفئدتهم لجارهم إن دهته النوائب وحلت بساحه المصائب لم يعودوا كما كانوا فقد قلبوا لماضيهم ظهر المجن وانقلبوا ذئاباً كاسرة وتلك القلوب التي تحكي صفاء السماء أصبحت كالليل الحالك المليء بالغيوم والعواصف .
وهل تذكر ذلك الطفل الصغير الذي كان بالأمس يدرج فوق ترابك ويجول بين مغانيك ها هو اليوم شابٌّ قد زاد على الخامسة والعشرين من العمر واقفاً على أطلالك يناجي رسومك الدارسة بعدما عصفتْ بجسمه رياح الأسى والوهن وثارتْ بقلبه أمواج الصبابة والشجن أفما آن لهذا الفارس أن يترجل ولجسمه المنهك أن يستريح بعد هذا العناء الطويل .
أيها البيت لقد ذهبتْ ذكراك من قلوب أهلك ولم يبق من يكن لك الود غيري وسأحتفظ لك بهذا الحب والوفاء حتى تطويني يد الردى وأوسد في قبري حينها ستطوى تلك الصفحة التي حفظتْ ودك وراعتْ عهدك وتصبح بعدها نسياً منسيّا .
أيها البيت لم يبق لي أمل في هذه الدنيا فقد ذهب الزمان الذي ما زالتْ ذكراه ماثلة أمامي بكل أحداثها وتفاصيلها وذهب ذلك الملاك الطاهر الذي تركني وحيداً أصارع الشجن والوهن من دون نصير أو معين ومضى أولئك الناس الطيبون ورقدوا تحت الثرى فلم يعد الزمان زماني ولا المكان مكاني .
أيها البيت : هأنذا راحل عنك لأقضي ما بقي لي من أيام كما أرادها الله وكما كتبتْ في اللوح المحفوظ حتى تكتمل أنفاسي وأذهب إلى حيث الراحة الأبدية التي لا هم فيها ولا نصب في العالم الآخر حيث تكتنفني رحمة أرحم الراحمين .
أيها البيت ربما هذه آخر وقفة لي على أطلالك ولا أعلم هل سيسعفني القدر بتحقيق أملي ببنائك وإعادة مجدك القديم أم يحول دون هذا الأجل فالوداع الوداع الذي لا لقاء بعده .
1430 هــ .
أيام الصبا :
لقد آثرتُ أن أتكلم في هذه الخاطرة عن طفولتي والزمن الماضي :
لقد رأتْ عيناي النور أول ما رأته في ذلك البيت الطيني في أحد الأرياف من مدينة بريدة وقد عشتُ طفولةً مليئةً بالحب والسعادة والطهر والبراءة .
كنتُ في الصباح الباكر مع ضياء النور وشقشقة الطيور أخرج مع أترابي إلى المزارع المحيطة بقريتنا فنلهوا ونسرح ونمرح بين النخيل ونرقب الطيور وهي تغادر أعشاشها بحثاً عن الرزق فإذا أشرقت الشمس وقد أنهكنا التعب من كثرة الجري والسير بين المزارع نذهب إلى الساقية وننهل منها ما يروي ظمأنا ثم نتفيأ ظل إحدى النخيل ونجلس نرقب أصحاب المزارع الذين وضعوا مساحيهم على أكتافهم واتجهوا لمزارعهم فبعضهم قد أخذ (الكر) وبعضهم منكب على حصد البرسيم وقد سال الدم من يده بسبب سرعة حصده بالمنجل (المخلب) فإذا مللنا من هذه المناظر بدأنا المسير من جديد فنرى بعض الكبار قد ذهب إلى القنص فمنهم من معه بندقية ومنهم من معه (النبيطة) فنذهب معهم وكانت أعيننا الصغيرة كالرادار لهم فنخبرهم بمواقع الطيور وأماكن تواجدها فيصطادونها ثم نتسابق إلى أخذها وإتيان الكبار بها فيهبونها لنا فنرجع إلى أهلنا فرحين بهذا الصيد الصغير ونبدأ الكذب عليهم بقولنا إنا نحن الذين اصطدناها بجانب الساقية وقد زحفنا على بطوننا حتى اقتربنا منه فحذفناه ببعض الحجارة فسقط صريعاً فأخذناه فإذا أتى وقت الظهيرة أتى أخي محملاً بالصيد من القميري والصفار والدخل ثم يسألني عن هذا الطير الذي بحوزتي وهو الذي أعطاني إياه في أول الصباح فأخبره بما أخبرت به أهلي من طريقة صيدي له فيضحك على كذبي .
وأحياناً نذهب إلى الكبار في الليلة الشاتية الماطرة فنجدهم قد لاذوا بذلك الحضار المغلق من جوانبه الثلاث الذي صنعوه بجانب الأثل المصطف بعضه إلى بعض فنجلس معهم ونتناول الشاي وسط صوت الرعد ورذاذ المطر ونور البرق فإذا جهز الشواء تناولناه بسعادة غامرة ولذة عارمة .
مضت حياتي على هذا المنوال وكان يدور بخلدي الصغير دوام هذه الأيام السعيدة والحياة الجميلة حتى حدث ما لم يكن بالحسبان فماذا حدث يا ترى حتى تغيرت نظرتي وعرفت أن دوام الحال من المحال ولابد من يوم تزول فيه هذه الطفولة ويتفرق أترابي وأصبح وحيداً أتشوق إلى الماضي وأحن إلى الصبا كما هو حالي اليوم ؟
كنت ألعب مع إحدى الصبايا يومياً ألعاب الصغار فمن (الدنينة) إلى (الكعابة) إلى غيرها من ألعاب الطفولة .
كنا نتقابل مع شروق الشمس ولا نفترق إلا عند الغروب .
مضت حياتي على هذا المنوال حتى صحوت ذات يوم مع شروق الشمس وانتظرت الصبية فلم تحضر فذهبت ولعبت مع أترابي وعندما أتيت سألت أمي عن الصبية فأخبرتني أنها انتقلت مع أهلها إلى حي آخر فصمت وذهبت أجر قدميّ جرّاً حزناً عليها وحنيناً إليها .
أتت أمي إلي وواستني ببعض الكلمات ولم تعلم ما يعانيه قلبي الغض من ألم الفراق وحر الجوى .
لقد تجرعت مرارة أول فراق قبل ما يزيد على العشرين عاماً وكان عمري إذْ ذاك خمس سنوات ولم يحتمل قلبي الغض ألم الفراق فكنت أذهب في بعض الأحايين إذا اضطرمت بقلبي الذكرى والتهبت نار الأشواق إلى ذلك المنزل الذي رحل عنه ساكنوه فأستعيد بعض ذكرياتي فيه وقد رآني أخي الكبير في إحدى المرات وأنا أجول في المنزل المهجور فانتهرني وسألني عن الذي أتى بي إلى هنا فأخبرته أني مشتاق إلى تلك الصبية وأريد رؤياها واللعب معها كما كنت قبل أشهر قليلة .
دمعت عينا أخي وضمني إلى صدره وقال لي : سترى في مقتبل عمرك آلاماً وأشجاناً ما دمت هكذا .
أمسكت يد أخي الكبير ومضيت معه إلى البيت وبعد أشهر قليلة رحلنا عن ذلك البيت إلى المدينة وانتهت تلك الأيام الجميلة التي ما زلت أحن إليها وأذوب شوقاً لرجوعها .
وبعد أعوامٍ طويلة ذهبت إلى ذلك البيت لأستعيد الذكرى فرأيته متهدم الأرجاء فبحثت بنواحيه عن أولئك الذين عمروه وشيدوا بنيانه حتى أصبح شامخاً فلم أر منهم أحداً بل رأيت في بقعة نائية أحجاراً متناثرة قد وقع عليها بعض الطيور ولم تكن غير المقبرة التي رقد فيها أولئك الناس .
ذهبت إلى تلك المزارع التي كانت فيما مضى جناناً خضراء وارفة الظلال كثيرة الثمار دانية القطوف فوجدتها يباباً فالنخل قد مات من الظمأ والساقية نضب معينها بعد إهمالها فألم بي من الحزن ما عجز قلبي عن احتماله
فذهبت إلى مزرعة جدي فلم تكن أحسن حالاً من سابقاتها فتجولت بها قليلاً فوجدت منجل جدي قد علاه الصدأ وبجانبه تلك (الغرشة) التي كانوا يحلبون بها فاتجهت إلى البئر الذي كنا نستعذب منه الماء فلم أجد به نقطة ماء بل وجدته مأوى للحشرات والهوام ووجدت ذلك (الدلو) الذي طالما استخرجت به الماء مستقراً في قاع البئر فعدت أدراجي إلى البيت المتهدم فوجدت تلك الأثلة التي طالما تفيأها جدي ورقد تحتها قد تساقط هدبها وتغيرت حالها فلم تكن كما عهدتها خضراء ريانة الأغصان وتلك الشرفة التي كنت فيما مضى أطل منها على المارة أصبحت وكراً للطير وأفراخه فخانتني عبرتي ولم أملك نفسي من البكاء وأيقنت بأن ذلك الزمان ولى إلى غير رجعة وأن علي أن أنسى الماضي وأمسح ذكراه من قلبي وأنى لي بهذا وقد خالط الماضي شغاف قلبي وسرى حبه بدمي .
عندما أظلم الليل صليت وحدي بتلك البقعة التي كنت أصلي بها فيما مضى مع أولئك الناس ثم عدت أدراجي بجسمي إلى المدينة وأبقيت قلبي ومشاعري وأحاسيسي في القرية في ذلك البيت المتهدم ومع أولئك الناس الذين واراهم الثرى .
1430 هـــ .
هذه الخاطرة لم أكتبها بمداد قلمي بل كتبتها بقطرات دمي ودموع عيني بعدما مررت على بيتنا القديم فوجدته خاوٍ على عروشه فتأثرت وكتبت هذه الخاطرة :
أيها البيت الذي فيه نشأت وعلى ترابه درجت ووسط عراصه تقلبت أين بناؤك الشامخ وعزك الباذخ الذي لعبت به أيدي المنون وتصاريف الدهور .
ألم تكن قبل عقود قليلة ذلك البناء الذي ترنوا إليه الأنظار فما الذي دهاك حتى أصبحت ذكرى تذكر وأحاديث تروى وتاريخاً يكتب .
لقد كنت أرجو أن تكون ذكرى باقية بعد رحيلي وهأنذا أبقى ذكرى لأحدث عن ذكرياتي معك بعد رحيلك .
هل تذكر تلك الليالي والأيام الجميلة عندما كنت طفلاً آتي بصحبة ذلك الملاك الطاهر ونجلس عند النخلة التي اتكأت على أحد حيطانك بعدما عصفت بها رياح الشيخوخة نرقب غروب الشمس وأفول أشعتها الذهبية وعندما كنا نجلس تحت العريش نرقب المطر المتساقط .
وهل تذكر عندما كنت مع أترابي نرقب الطيور المهاجرة نحو الأفق البعيد .
وعندما كنا نرمي النخلة الهرمة بالحجارة لتسقط لنا الرطب فنأكله تحتها بين خرير الماء وتغريد الطيور .
يا لها من براءة نرميها ونؤذيها ثم نتفيأ ظلها ونأكل ثمارها .
وهل تذكر أولئك الشباب الذين عهدتهم كالأسود أصبحوا اليوم متنعمين متميعين قد آثروا النعومة على الخشونة .
وهل تذكر أولئك الناس الطيبين الذين يبذلون مهجهم وأفئدتهم لجارهم إن دهته النوائب وحلت بساحه المصائب لم يعودوا كما كانوا فقد قلبوا لماضيهم ظهر المجن وانقلبوا ذئاباً كاسرة وتلك القلوب التي تحكي صفاء السماء أصبحت كالليل الحالك المليء بالغيوم والعواصف .
وهل تذكر ذلك الطفل الصغير الذي كان بالأمس يدرج فوق ترابك ويجول بين مغانيك ها هو اليوم شابٌّ قد زاد على الخامسة والعشرين من العمر واقفاً على أطلالك يناجي رسومك الدارسة بعدما عصفتْ بجسمه رياح الأسى والوهن وثارتْ بقلبه أمواج الصبابة والشجن أفما آن لهذا الفارس أن يترجل ولجسمه المنهك أن يستريح بعد هذا العناء الطويل .
أيها البيت لقد ذهبتْ ذكراك من قلوب أهلك ولم يبق من يكن لك الود غيري وسأحتفظ لك بهذا الحب والوفاء حتى تطويني يد الردى وأوسد في قبري حينها ستطوى تلك الصفحة التي حفظتْ ودك وراعتْ عهدك وتصبح بعدها نسياً منسيّا .
أيها البيت لم يبق لي أمل في هذه الدنيا فقد ذهب الزمان الذي ما زالتْ ذكراه ماثلة أمامي بكل أحداثها وتفاصيلها وذهب ذلك الملاك الطاهر الذي تركني وحيداً أصارع الشجن والوهن من دون نصير أو معين ومضى أولئك الناس الطيبون ورقدوا تحت الثرى فلم يعد الزمان زماني ولا المكان مكاني .
أيها البيت : هأنذا راحل عنك لأقضي ما بقي لي من أيام كما أرادها الله وكما كتبتْ في اللوح المحفوظ حتى تكتمل أنفاسي وأذهب إلى حيث الراحة الأبدية التي لا هم فيها ولا نصب في العالم الآخر حيث تكتنفني رحمة أرحم الراحمين .
أيها البيت ربما هذه آخر وقفة لي على أطلالك ولا أعلم هل سيسعفني القدر بتحقيق أملي ببنائك وإعادة مجدك القديم أم يحول دون هذا الأجل فالوداع الوداع الذي لا لقاء بعده .
1430 هــ .
أيام الصبا :
لقد آثرتُ أن أتكلم في هذه الخاطرة عن طفولتي والزمن الماضي :
لقد رأتْ عيناي النور أول ما رأته في ذلك البيت الطيني في أحد الأرياف من مدينة بريدة وقد عشتُ طفولةً مليئةً بالحب والسعادة والطهر والبراءة .
كنتُ في الصباح الباكر مع ضياء النور وشقشقة الطيور أخرج مع أترابي إلى المزارع المحيطة بقريتنا فنلهوا ونسرح ونمرح بين النخيل ونرقب الطيور وهي تغادر أعشاشها بحثاً عن الرزق فإذا أشرقت الشمس وقد أنهكنا التعب من كثرة الجري والسير بين المزارع نذهب إلى الساقية وننهل منها ما يروي ظمأنا ثم نتفيأ ظل إحدى النخيل ونجلس نرقب أصحاب المزارع الذين وضعوا مساحيهم على أكتافهم واتجهوا لمزارعهم فبعضهم قد أخذ (الكر) وبعضهم منكب على حصد البرسيم وقد سال الدم من يده بسبب سرعة حصده بالمنجل (المخلب) فإذا مللنا من هذه المناظر بدأنا المسير من جديد فنرى بعض الكبار قد ذهب إلى القنص فمنهم من معه بندقية ومنهم من معه (النبيطة) فنذهب معهم وكانت أعيننا الصغيرة كالرادار لهم فنخبرهم بمواقع الطيور وأماكن تواجدها فيصطادونها ثم نتسابق إلى أخذها وإتيان الكبار بها فيهبونها لنا فنرجع إلى أهلنا فرحين بهذا الصيد الصغير ونبدأ الكذب عليهم بقولنا إنا نحن الذين اصطدناها بجانب الساقية وقد زحفنا على بطوننا حتى اقتربنا منه فحذفناه ببعض الحجارة فسقط صريعاً فأخذناه فإذا أتى وقت الظهيرة أتى أخي محملاً بالصيد من القميري والصفار والدخل ثم يسألني عن هذا الطير الذي بحوزتي وهو الذي أعطاني إياه في أول الصباح فأخبره بما أخبرت به أهلي من طريقة صيدي له فيضحك على كذبي .
وأحياناً نذهب إلى الكبار في الليلة الشاتية الماطرة فنجدهم قد لاذوا بذلك الحضار المغلق من جوانبه الثلاث الذي صنعوه بجانب الأثل المصطف بعضه إلى بعض فنجلس معهم ونتناول الشاي وسط صوت الرعد ورذاذ المطر ونور البرق فإذا جهز الشواء تناولناه بسعادة غامرة ولذة عارمة .
مضت حياتي على هذا المنوال وكان يدور بخلدي الصغير دوام هذه الأيام السعيدة والحياة الجميلة حتى حدث ما لم يكن بالحسبان فماذا حدث يا ترى حتى تغيرت نظرتي وعرفت أن دوام الحال من المحال ولابد من يوم تزول فيه هذه الطفولة ويتفرق أترابي وأصبح وحيداً أتشوق إلى الماضي وأحن إلى الصبا كما هو حالي اليوم ؟
كنت ألعب مع إحدى الصبايا يومياً ألعاب الصغار فمن (الدنينة) إلى (الكعابة) إلى غيرها من ألعاب الطفولة .
كنا نتقابل مع شروق الشمس ولا نفترق إلا عند الغروب .
مضت حياتي على هذا المنوال حتى صحوت ذات يوم مع شروق الشمس وانتظرت الصبية فلم تحضر فذهبت ولعبت مع أترابي وعندما أتيت سألت أمي عن الصبية فأخبرتني أنها انتقلت مع أهلها إلى حي آخر فصمت وذهبت أجر قدميّ جرّاً حزناً عليها وحنيناً إليها .
أتت أمي إلي وواستني ببعض الكلمات ولم تعلم ما يعانيه قلبي الغض من ألم الفراق وحر الجوى .
لقد تجرعت مرارة أول فراق قبل ما يزيد على العشرين عاماً وكان عمري إذْ ذاك خمس سنوات ولم يحتمل قلبي الغض ألم الفراق فكنت أذهب في بعض الأحايين إذا اضطرمت بقلبي الذكرى والتهبت نار الأشواق إلى ذلك المنزل الذي رحل عنه ساكنوه فأستعيد بعض ذكرياتي فيه وقد رآني أخي الكبير في إحدى المرات وأنا أجول في المنزل المهجور فانتهرني وسألني عن الذي أتى بي إلى هنا فأخبرته أني مشتاق إلى تلك الصبية وأريد رؤياها واللعب معها كما كنت قبل أشهر قليلة .
دمعت عينا أخي وضمني إلى صدره وقال لي : سترى في مقتبل عمرك آلاماً وأشجاناً ما دمت هكذا .
أمسكت يد أخي الكبير ومضيت معه إلى البيت وبعد أشهر قليلة رحلنا عن ذلك البيت إلى المدينة وانتهت تلك الأيام الجميلة التي ما زلت أحن إليها وأذوب شوقاً لرجوعها .
وبعد أعوامٍ طويلة ذهبت إلى ذلك البيت لأستعيد الذكرى فرأيته متهدم الأرجاء فبحثت بنواحيه عن أولئك الذين عمروه وشيدوا بنيانه حتى أصبح شامخاً فلم أر منهم أحداً بل رأيت في بقعة نائية أحجاراً متناثرة قد وقع عليها بعض الطيور ولم تكن غير المقبرة التي رقد فيها أولئك الناس .
ذهبت إلى تلك المزارع التي كانت فيما مضى جناناً خضراء وارفة الظلال كثيرة الثمار دانية القطوف فوجدتها يباباً فالنخل قد مات من الظمأ والساقية نضب معينها بعد إهمالها فألم بي من الحزن ما عجز قلبي عن احتماله
فذهبت إلى مزرعة جدي فلم تكن أحسن حالاً من سابقاتها فتجولت بها قليلاً فوجدت منجل جدي قد علاه الصدأ وبجانبه تلك (الغرشة) التي كانوا يحلبون بها فاتجهت إلى البئر الذي كنا نستعذب منه الماء فلم أجد به نقطة ماء بل وجدته مأوى للحشرات والهوام ووجدت ذلك (الدلو) الذي طالما استخرجت به الماء مستقراً في قاع البئر فعدت أدراجي إلى البيت المتهدم فوجدت تلك الأثلة التي طالما تفيأها جدي ورقد تحتها قد تساقط هدبها وتغيرت حالها فلم تكن كما عهدتها خضراء ريانة الأغصان وتلك الشرفة التي كنت فيما مضى أطل منها على المارة أصبحت وكراً للطير وأفراخه فخانتني عبرتي ولم أملك نفسي من البكاء وأيقنت بأن ذلك الزمان ولى إلى غير رجعة وأن علي أن أنسى الماضي وأمسح ذكراه من قلبي وأنى لي بهذا وقد خالط الماضي شغاف قلبي وسرى حبه بدمي .
عندما أظلم الليل صليت وحدي بتلك البقعة التي كنت أصلي بها فيما مضى مع أولئك الناس ثم عدت أدراجي بجسمي إلى المدينة وأبقيت قلبي ومشاعري وأحاسيسي في القرية في ذلك البيت المتهدم ومع أولئك الناس الذين واراهم الثرى .
1430 هـــ .