الغيث
08-22-2021, 08:26 AM
سِنَّارة ( قصة قصيرة )
أحسستُ بشدٍّ عنيف يسحب سنارتي ، لدرجة أن يدي التي أمسك بها تلك السنارة كادت أن تتمزق تحت وطأة ذلك الشد القادم من أعماق البحر ، زدتُ من درجة الإمساك بقبض أصابعي على السنارة دون فائدة تذكر ، أمسكتها بيدي الاثنتين لكن قوة السحب كانت أشد من كل التوقعات ، أدركت بعدها أنني سأسقط في البحر وتحدث الكارثة ؛ لعدم معرفتي بالسباحة ، وهنا لم يكن أمامي إلا خياران ، إما التخلي عن السنارة وما تحمله من مفاجأة أو الاستعانة بالشباب المتواجد بالقرب مني ، استعنتُ بمن حولي من الشباب فأتى بعضهم لمساعدتي ، قال أحدهم : ـــــ هذي نَتْمَةُ ( سحبة ) دُرَبْ .
لأنه عندما تنغرس شوكة السنارة في فمه يغوص إلى الأعماق بصورة عمودية وبقوة هائلة ؛ لمحاولة التخلص من الشوكة .
تساعَدْنا في سحبه ــــ جميعا ــــ إلى الجانب المرصوف بالأحجار البركانية التي تجلبها الشركة المنفذة للميناء من العارضة ، كانت سمكة من نوع ( الدُّرَب ) في متوسط عمرها ، فرِحتُ وابتهجت بهذا الصيد الثمين بعد خلو الأيام الثلاثة التي سبقت من أي صيد يذكر ، مع أن الشباب هناك كثيرا ما كانوا يصطادون أمامي أنواعا من الأسماك ، ازداد ابتهاجي ورحت أحتفل في داخلي بهذا النصر المؤزر ! بل ونصَّبت نفسي فارسا بين مجموعات الشباب المتجمعين على جوانب رصيف الميناء ووددت لو أوجه لهم دعوة عشاء مميز بهذه السمكة .
نظرت إلى ساعتي السويسرية الفاخرة التي أهداها لي أبي ـــــ قبل أن يرحل عن دنيانا ـــــ بمناسبة نجاحي من الصف الثالث الابتدائي ، وجدتها تشير إلى التاسعة صباحا بتوقيتنا الحالي ، انتابني شيء من الارتباك فجمعت أشيائي بسرعة فائقة ، ذلك لأني على موعد مهم للغاية مع ( الراديو ) ؛ انتظارا لبرنامج أحبه كثيرا يأتي في العاشرة صباحا .
كنت ــــ حينذاك ـــــ في الثانية عشرة من العمر ، وكانت الإذاعة من ضمن تسالينا وملء فراغنا بما يفيد ، فور وصولي إلى المنزل تناولت أقرب سكين من مطبخنا الشعبي وقمت بفتح بطن السمكة وتنظيف تجاويفها ثم قطعتها إلى أجزاء مناسبة ؛ لتعد منها أسرتي وجبة غداء فاخر ، خلعت ملابس البحر وشرعت في الاستحمام ، كانت الساعة تشير إلى التاسعة والخمسين دقيقة ولم يتبق على موعد البرنامج الذي أحبه سوى عشر دقائق .
في تلك الفترة كانت الإذاعة السعودية تقدم العديد من البرامج الهادفة والمنوعة التي يشرف عليها كوكبة من الفنيين والمخرجين والمذيعين الأكْفَاء ، ومنها برنامج ( تحية وسلام ) ، هذا البرنامج الذي يحبه الجميع وينتظرونه صباح كل جمعة ، ومن حبي لهذا البرنامج وددت لو أني أدير عقارب الساعة لتكتمل تمام العاشرة وينطلق البرنامج ، ورغم أنه ليس لأسرتنا أحد من المبتعثين للدراسة خارج المملكة إلا أننا نعشقه كما تعشقه بقية الأسر المرتبطة بأحد أولئك المبتعثين ؛ انتظارا لسماع أصواتهم عبر الأثير وهم يبثون أشواقهم وحنينهم ولواعج أنفسهم واشتياقهم إلى ذويهم والعودة إلى أرض الوطن ، في فترة لم يكن الاتصال متاحا بهم كما هو اليوم .
دقت العاشرة ــــ تماما ــــ وبدأ البرنامج بمقدمته الشهيرة أغنية ( هيام يونس ) :
يا مَنْ يِسَلِّمْ لي على الغالي
ويجيـــبْ لي مِنُّـــــهْ مراسيــلُهْ
هذه المقدمة التي تدغدغ أشجان ووجدانيات مستمعي البرنامج ، وتحرك شجون وحنين أهالي المبتعثين ودموعهم ينطلق عبرها صوت المذيع بدر كريم وهو يقول : برنامج تحية وسلام ، ثم تبدأ المكالمة بينه وبين المبتعث في حوار جميل يتضمن مكان دراسته والمدة التي أمضاها في بلد الابتعاث والتخصص الذي يدرسه ، ثم تحياته وأشواقه وسلامه إلى ذويه ، وفي نهاية الحوار يسأله المذيع عن الإهداء الذي يحب أن يهديه إلى أهله وذويه ومعارفه وأصدقائه ، فمن المبتعثين من يهدي أغنية لأحد الفنانين المشهورين ـــــ في تلك الفترة من الزمن ــــ والبعض الآخر يهدي مقطعا من مسلسل إذاعي أو قصيدة من قصائد شعراء الوطن أو غير ذلك ، وكانت أغلب الإهداءات تتمحور حول أغنية الفنانة نجاة الصغيرة ( الطير المسافر ) :
وبعتنا مع الطير المسافر جواب ..
وعتاب ..وتراب من أرض أجدادي ..
وزهرة م الوادي .. يمكن يفتكر اللي هاجر
أن له في بلاده أحباب
له في بلاده أحباب
حبايبنا عاملين إيه في الغربه
مرتاحين ولا تعبانين
فرحانين ولا زعلانين
مشتاقين ليكم مشتاقين
من عيونكم محرومين
وابعتوا لنا مع الطير اللي راجع
جواب وسلام
بعد انتهاء البرنامج تهيأتُ لصلاة الجمعة ، وفي طريقي للجامع يذهب بي الخيال أنني كنت واحدا من أولئك المبتعثين فأهدي سلامي وأشواقي إلى أهلي ـــــ كأمنية مستقبلية ـــــ ( أحلام يقظة ) ولا يقطع علي هذا الحلم إلا تلك السمكة البهية وأنا أتخيلها وقد وضعتْ على مائدة غذاء شهي .
***
بقلمي / الغيث
أحسستُ بشدٍّ عنيف يسحب سنارتي ، لدرجة أن يدي التي أمسك بها تلك السنارة كادت أن تتمزق تحت وطأة ذلك الشد القادم من أعماق البحر ، زدتُ من درجة الإمساك بقبض أصابعي على السنارة دون فائدة تذكر ، أمسكتها بيدي الاثنتين لكن قوة السحب كانت أشد من كل التوقعات ، أدركت بعدها أنني سأسقط في البحر وتحدث الكارثة ؛ لعدم معرفتي بالسباحة ، وهنا لم يكن أمامي إلا خياران ، إما التخلي عن السنارة وما تحمله من مفاجأة أو الاستعانة بالشباب المتواجد بالقرب مني ، استعنتُ بمن حولي من الشباب فأتى بعضهم لمساعدتي ، قال أحدهم : ـــــ هذي نَتْمَةُ ( سحبة ) دُرَبْ .
لأنه عندما تنغرس شوكة السنارة في فمه يغوص إلى الأعماق بصورة عمودية وبقوة هائلة ؛ لمحاولة التخلص من الشوكة .
تساعَدْنا في سحبه ــــ جميعا ــــ إلى الجانب المرصوف بالأحجار البركانية التي تجلبها الشركة المنفذة للميناء من العارضة ، كانت سمكة من نوع ( الدُّرَب ) في متوسط عمرها ، فرِحتُ وابتهجت بهذا الصيد الثمين بعد خلو الأيام الثلاثة التي سبقت من أي صيد يذكر ، مع أن الشباب هناك كثيرا ما كانوا يصطادون أمامي أنواعا من الأسماك ، ازداد ابتهاجي ورحت أحتفل في داخلي بهذا النصر المؤزر ! بل ونصَّبت نفسي فارسا بين مجموعات الشباب المتجمعين على جوانب رصيف الميناء ووددت لو أوجه لهم دعوة عشاء مميز بهذه السمكة .
نظرت إلى ساعتي السويسرية الفاخرة التي أهداها لي أبي ـــــ قبل أن يرحل عن دنيانا ـــــ بمناسبة نجاحي من الصف الثالث الابتدائي ، وجدتها تشير إلى التاسعة صباحا بتوقيتنا الحالي ، انتابني شيء من الارتباك فجمعت أشيائي بسرعة فائقة ، ذلك لأني على موعد مهم للغاية مع ( الراديو ) ؛ انتظارا لبرنامج أحبه كثيرا يأتي في العاشرة صباحا .
كنت ــــ حينذاك ـــــ في الثانية عشرة من العمر ، وكانت الإذاعة من ضمن تسالينا وملء فراغنا بما يفيد ، فور وصولي إلى المنزل تناولت أقرب سكين من مطبخنا الشعبي وقمت بفتح بطن السمكة وتنظيف تجاويفها ثم قطعتها إلى أجزاء مناسبة ؛ لتعد منها أسرتي وجبة غداء فاخر ، خلعت ملابس البحر وشرعت في الاستحمام ، كانت الساعة تشير إلى التاسعة والخمسين دقيقة ولم يتبق على موعد البرنامج الذي أحبه سوى عشر دقائق .
في تلك الفترة كانت الإذاعة السعودية تقدم العديد من البرامج الهادفة والمنوعة التي يشرف عليها كوكبة من الفنيين والمخرجين والمذيعين الأكْفَاء ، ومنها برنامج ( تحية وسلام ) ، هذا البرنامج الذي يحبه الجميع وينتظرونه صباح كل جمعة ، ومن حبي لهذا البرنامج وددت لو أني أدير عقارب الساعة لتكتمل تمام العاشرة وينطلق البرنامج ، ورغم أنه ليس لأسرتنا أحد من المبتعثين للدراسة خارج المملكة إلا أننا نعشقه كما تعشقه بقية الأسر المرتبطة بأحد أولئك المبتعثين ؛ انتظارا لسماع أصواتهم عبر الأثير وهم يبثون أشواقهم وحنينهم ولواعج أنفسهم واشتياقهم إلى ذويهم والعودة إلى أرض الوطن ، في فترة لم يكن الاتصال متاحا بهم كما هو اليوم .
دقت العاشرة ــــ تماما ــــ وبدأ البرنامج بمقدمته الشهيرة أغنية ( هيام يونس ) :
يا مَنْ يِسَلِّمْ لي على الغالي
ويجيـــبْ لي مِنُّـــــهْ مراسيــلُهْ
هذه المقدمة التي تدغدغ أشجان ووجدانيات مستمعي البرنامج ، وتحرك شجون وحنين أهالي المبتعثين ودموعهم ينطلق عبرها صوت المذيع بدر كريم وهو يقول : برنامج تحية وسلام ، ثم تبدأ المكالمة بينه وبين المبتعث في حوار جميل يتضمن مكان دراسته والمدة التي أمضاها في بلد الابتعاث والتخصص الذي يدرسه ، ثم تحياته وأشواقه وسلامه إلى ذويه ، وفي نهاية الحوار يسأله المذيع عن الإهداء الذي يحب أن يهديه إلى أهله وذويه ومعارفه وأصدقائه ، فمن المبتعثين من يهدي أغنية لأحد الفنانين المشهورين ـــــ في تلك الفترة من الزمن ــــ والبعض الآخر يهدي مقطعا من مسلسل إذاعي أو قصيدة من قصائد شعراء الوطن أو غير ذلك ، وكانت أغلب الإهداءات تتمحور حول أغنية الفنانة نجاة الصغيرة ( الطير المسافر ) :
وبعتنا مع الطير المسافر جواب ..
وعتاب ..وتراب من أرض أجدادي ..
وزهرة م الوادي .. يمكن يفتكر اللي هاجر
أن له في بلاده أحباب
له في بلاده أحباب
حبايبنا عاملين إيه في الغربه
مرتاحين ولا تعبانين
فرحانين ولا زعلانين
مشتاقين ليكم مشتاقين
من عيونكم محرومين
وابعتوا لنا مع الطير اللي راجع
جواب وسلام
بعد انتهاء البرنامج تهيأتُ لصلاة الجمعة ، وفي طريقي للجامع يذهب بي الخيال أنني كنت واحدا من أولئك المبتعثين فأهدي سلامي وأشواقي إلى أهلي ـــــ كأمنية مستقبلية ـــــ ( أحلام يقظة ) ولا يقطع علي هذا الحلم إلا تلك السمكة البهية وأنا أتخيلها وقد وضعتْ على مائدة غذاء شهي .
***
بقلمي / الغيث