المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح حديث أبي هريرة لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة


نزف القلم
03-15-2021, 03:37 AM
شرح حديث أبي هريرة: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة"
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لم يَتكلَّمْ في المهدِ إلا ثلاثةٌ: عيسى بن مريم، وصاحب جُرَيْجٍ، وكان جريجٌ رجلًا عابدًا، فاتخَذ صومعة فكان فيها، فأتتْه أمُّه وهو يصلِّي، فقالت: يا جريجُ، فقال: يا ربِّ، أمي وصلاتي! فأقبَلَ على صلاته، فانصرفتْ، فلما كان من الغد أتتْه وهو يصلِّي، فقالت: يا جريجُ، فقال: أيْ ربِّ، أمي وصلاتي! فأقبَلَ على صلاته، فلما كان من الغد أتتْه وهو يصلِّي، فقالت: يا جريجُ، فقال: أيْ رب، أمي وصلاتي! فأقبَلَ على صلاته، فقالت: اللهم لا تُمِتْهُ حتى ينظُر إلى وجوه المُومِسات.
فتذاكَرَ بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغيٌّ يُتمثَّلُ بحُسنها، فقالت: إنْ شئتم لَأَفتِنَنَّه، فتعرَّضتْ له، فلم يلتفت إليها، فأتتْ راعيًا كان يأوي إلى صومعته، فأمكَنتْه من نفسها فوقَع عليها، فحمَلتْ، فلما ولَدتْ قالت: هو مِن جريج، فأتَوْه فاستنزَلوه وهدَموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيتَ بهذه البغيِّ فولَدتْ منك، قال: أين الصبيُّ؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلِّي، فصلَّى، فلما انصرَف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه وقال: يا غلامُ، من أبوك؟ قال: فلانٌ الراعي، فأقبَلوا على جُريجٍ يُقبِّلونه ويتمسَّحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا، أَعِيدوها من طين كما كانت، ففعَلوا.
وبَيْنا صبيٌّ يرضع من أمِّه فمَرَّ رجلٌ راكب على دابَّة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمُّه: اللهم اجعَل ابني مثل هذا، فترَكَ الثديَ وأقبَلَ إليه، فنظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مِثلَه، ثم أقبَل على ثديِه فجعل يرتضع، فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعِه السبَّابة في فيه، فجعل يمصها.
قال: ومرُّوا بجارية هم يضربونها، ويقولون: زنَيتِ سرَقتِ، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمُّه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرَّضاع ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها.
فهنالك تَراجَعَا الحديث، فقالت: مرَّ رجلٌ حسن الهيئة فقلتُ: اللهم اجعل ابني مثله، فقلتَ: اللهم لا تجعلني مثله، ومرُّوا بهذه الأَمَةِ وهم يضربونها، ويقولون: زنيتِ سرَقتِ، فقلتُ: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلتَ: اللهم اجعلني مثلها؟! قال: إن ذلك الرجل كان جبارًا، فقلتُ: اللهم لا تجعلني مثله، وإن هذه يقولون لها: زنَيتِ، ولم تَزْنِ، وسرَقتِ، ولم تَسرِق، فقلتُ: اللهم اجعلني مثلها))؛ متفق عليه.
((والمُومِسات)) بضم الميم الأولى، وإسكان الواو، وكسر الميم الثانية، وبالسين المهملة، وهن الزَّواني، والمومِسة: الزانية.
وقوله: ((دابة فارهة)) بالفاء: أي حاذقة نفيسة.
((والشارة)) بالشين المعجمة وتخفيف الراء: وهي الجمال الظاهر في الهيئة والملبس.
ومعنى ((تراجعا الحديث)) أي: حدَّثَتِ الصبيَّ وحدَّثَها، والله أعلم.
قال سَماحة العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
ذكَرَ المؤلِّف رحمه الله تعالى فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لم يتكلَّم في المهد إلا ثلاثة)).
أولًا: عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، وعيسى بنُ مريم آخرُ أنبياء بني إسرائيل، بل آخر الأنبياء قبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يكن بينه وبين النبيِّ صلى الله عليه وسلم نبيٌّ، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6]، فليس بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين عيسى بن مريم نبيٌّ.
وأما ما يُذكَر عند المؤرخين من وجود أنبياء في العرب كخالد بن سنان وغيره، فهذا كذب، ولا صحة له.
وعيسى بن مريم كان آيةً من آيات الله عز وجل، كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50]، كان آية في منشئه، وآية في وضعه.
أما في منشئه، فإن أمَّه مريمَ رضي الله عنها حمَلتْ به من غير أب، حيث أرسَل الله عز وجل جبريلَ إليها، فتَمثَّل لها بشرًا سويًّا، ونفَخ في فرْجها، فحمَلتْ بعيسى صلى الله عليه وسلم، والله على كل شيء قدير، فالقادر على أن يخلُقَ الولد من المنيِّ، قادرٌ على أن يخلقه من هذه النفخة، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، لا يَستعصي على قدرة الله شيءٌ، إذا أراد شيئًا قال له: كن، فكان، فحملت وولَدتْ، وقيل: إنه لم يبق في بطنها كما تبقى الأجنة، ولكنها حمَلتْه وشبَّ سريعًا، ثم وضعته.
وكان آيةً في وضعه، فجاءها المخاض إلى جذع النخلة، فقالت: ﴿ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 23]، هي لم تتمنَّ الموت، لكنها تمنَّتْ أنه لم يأتها هذا الشيءُ حتى الموت ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ﴾ [مريم: 24]؛ أي: عين تمشي تحت النخلة.
ثم قال: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]، تهُزُّ الجِذعَ وهي امرأة قد أتاها المخاض، فتتساقط من هزِّها الرُّطبُ، ﴿ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ لا يفسد إذا وقع على الأرض، وهذا خلاف العادة؛ فالعادة أن المرأة عند النفاس تكون ضعيفة، والعادة عند هزِّ النخلة ألا تُهَزَّ من أسفل، بل تُهَزُّ من فوق؛ لأنها جذع لا تهتز لو هزَّها الإنسان، والعادة أيضًا أن الرطب إذا سقط فإنه يسقط على الأرض ويتمزَّق، لكن الله قال: ﴿ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ﴾ [مريم: 25، 26]، الله أكبر! فذلك من آيات الله عزَّ وجلَّ، فالله على كل شيء قدير.
ولما وضَعَتِ الولد أتتْ به قومَها تَحمِلُه، تحمل طفلًا وهي لم تتزوَّج، فقالوا لها يُعرِّضونها بالبغاء، قالوا: ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 28]، يعني كأنهم يقولون: من أين جاءك الزنا - نسأل الله العافية - وأبوك ليس امرأَ سوءٍ، وأمُّك ليست بغيًّا؟ وفي هذا إشارةٌ إلى أن الإنسان إذا زنى فقد يُبتلى نسلُه بالزنا، والعياذ بالله، كما جاء في الحديث في الأثر: ((من زنى زنى أهلُه)).
فهؤلاء قالوا: ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمُّك بغيًّا، فألهَمَها الله عزَّ وجلَّ فأشارت إلى الطفل، أشارت إليه، فكأنهم سَخِروا بها، قالوا: ﴿ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴾ [مريم: 29]، هذا غير معقول
ولكنه التفَتَ إليهم وقال هذا الكلامَ البليغ العجيب، قال: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 30 - 33]، سبعُ جُمَل - الله أكبر! - من طفل في المهد.
ولكن لا تتعجبْ؛ فإن قدرة الله فوق كلِّ شيء، أليست جلودُنا وأيدينا وأرجُلُنا وألسِنَتُنا يوم القيامة تشهد علينا بما فعلنا؟ بلى، تشهد.
أليست الأرض تُحدِّث أخبارها، بأن ربَّك أوحى لها؟ بلى، الأرض تشهد بما عملت عليها من قول أو فعل ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ [الزلزلة: 4، 5].
إذًا هذا كلام عيسى بن مريم، تَكلَّم بهذه الكلمات العظيمة، سبع جمل وهو في المهد.
أما الثاني: فهو صاحب جُرَيْجٍ، وجُريجٌ رجل عابد، انعزَلَ عن الناس، والعزلةُ خير إذا كان في الخِلطة شرٌّ، أما إذا لم يكن في الخلطة شر، فالاختلاطُ بالناس أفضل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن الذي يُخالِطُ الناسَ ويصبر على أذاهم، خيرٌ من المؤمن الذي لا يُخالطهم ولا يصبر على أذاهم)).
لكن إذا كانت الخلطة ضررًا عليك في دينك، فانجُ بدينك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن يكون خيرَ مال الرجل غنمٌ يَتْبعُ بها شَعَفَ الجبال ومواقع القَطْرِ))؛ يعني يَفِرُّ بدِينِه من الفتن.
فهنا جُريجٌ انعزَل عن الناس، وبنى صومعة - يعني مكانًا يَتعبَّد فيه لله عز وجل - فجاءتْه أمُّه ذات يوم وهو يصلِّي فنادتْه، فقال في نفسه: أيْ ربي، أمِّي وصلاتي! هل أجيب أمي وأقطع الصلاة، أو أستمِرُّ في صلاتي؟ فمضى في صلاته.
وجاءته مرةً ثانية، وقالت له مِثلَ الأولى، فقال مثل ما قال، ثم استمَر في صلاته، فجاءته مرة ثالثة فدعَتْه، فقال مثل ما قال، ثم استمَر في صلاته، فأدرَكَها الغضبُ، وقالت: ((اللهم لا تُمِتْه حتى ينظر في وجوه المومسات))؛ أي: الزواني؛ حتى ينظر في وجوه الزواني، والعياذ بالله.
والإنسان إذا نظر في وجوه الزواني افتتن؛ لأن نظر الرجل إلى المرأة فتنةٌ، فكيف إذا كانت - والعياذ بالله - زانية بغيًّا؟! فأشد فتنة؛ لأنه ينظر إليها على أنها تُمْكِنُه من نفسها فيفتتن.
ويستفاد من هذه الجملة من هذا الحديث أن الوالدين إذا نادياك وأنت تصلِّي، فإنَّ الواجب إجابتهما، لكن بشرط ألا تكون الصلاة فريضة، فإن كانت فريضة فلا يجوز أن تجيبَهما، لكن إذا كانت نافلة فأَجِبْهما، إلا إذا كانا ممن يُقدِّرون الأمور قدْرَها، وأنهما إذا عَلِما أنك في صلاة عذَراك، فهنا أَشِرْ إليهما بأنك في صلاة؛ إما بالنحنحة، أو بقول: سبحان الله، أو برفع صوتك في آية تقرؤها، أو دعاء تدعو به؛ حتى يشعر المنادي بأنك في صلاة، فإذا علمتَ أن هذين الأبوين: الأم والأب، عندهما مرونة؛ يعذرانك إذا كنت تصلِّي ألا تجيب، فنبِّههم على أنك تصلِّي.
فمثلًا إذا جاءك أبوك وأنت تصلِّي سنة الفجر، قال: يا فلان، وأنت تصلي، فإن كان أبوك رجلًا مرنًا يعذرك، فتنحنح له، أو قل: سبحان الله، أو ارفع صوتك بالقراءة أو بالدعاء أو بالذكر الذي أنت فيه؛ حتى يعذرك، وإن كان من الآخرين الذين لا يعذرون، ويريدون أن يكون قوله هو الأعلى، فاقطَعْ صلاتك وكلِّمهم، وكذلك يقال في الأم.
أما الفريضة، فلا تقطعها لأحد، إلا عند الضرورة، كما لو رأيت شخصًا تخشى أن يقع في هلَكة؛ في بئر، أو في بحر، أو في نار، فهنا اقطع صلاتك للضرورة، وأما لغير ذلك، فلا يجوز قطع الفريضة.
ويستفاد من هذه القطعة أن دعاء الوالد إذا كان بحقٍّ، فإنه حريٌّ بالإجابة، فدعاء الوالد على ولده إذا كان بحق، فهو حريٌّ أن يُجيبَه الله؛ ولهذا ينبغي لك أن تحترس غايةَ الاحتراس من دعاء الوالدين؛ حتى لا تُعرِّضَ نفسك لقَبول الله دعاءهما فتخسر.
وفي الحديث أيضًا دليل على أن الشفَقة التي أَودَعَها الله في الوالدين، قد يوجد ما يَرفَع هذه الشفقةَ؛ لأن هذه الدعوة عظيمة من هذه المرأة؛ أن تدعوَ على ولدها ألا يموت حتى ينظر في وجوه المومسات، لكن شدة الغضب - والعياذ بالله - أَوجَبَ لها أن تدعو بهذا الدعاء.
وفي قصته من الفوائد غيرَ ما سبق أن الإنسان إذا تَعرَّفَ إلى الله تعالى في الرخاء، عرَفَه في الشِّدة؛ فإن هذا الرجلَ كان عابدًا يتعبد لله عز وجل، فلما وقع في الشدة العظيمة، أنجاه الله منها.
لما جاء إليه هؤلاء الذين كادوا له هذا الكيدَ العظيم، ذهبتْ هذه المرأة إلى جُريجٍ لتفتنه، ولكنه لم يلتفت إليها، فإذا راعي غنم يرعاها ثم يأوي إلى صومعة هذا الرجل، فذهبت إلى الراعي فزنى بها، والعياذ بالله، فحمَلتْ منه، ثم قالوا: إن هذا الولدَ ولدُ زنا من جريج - رمَوْه بهذه الفاحشة العظيمة - فأقبَلوا عليه يضربونه، وأخرَجوه من صومعته وهدَموها، فطلب منهم أن يأتوا بالغلام الذي من الراعي، فلما أتوا به، ضرب في بطنه، وقال: مَن أبوك؟ - وهو في المهد - فقال: أبي فلان، يعني ذلك الراعي، فأقبَلوا إلى جريج يُقبِّلونه ويتمسحون به، وقالوا له: هل تريد أن نبنيَ لك صومعتك من ذهبٍ؟ لأنهم هدموها ظلمًا، قال: لا، رُدُّوها على ما كانت عليه من الطين، فبنَوْها له.
ففي هذه القصة أن هذا الصبيَّ تَكلَّمَ وهو في المهد، وقال: إن أباه فلانٌ الراعي، واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن ولد الزنى يَلحق الزاني؛ لأن جُريجًا قال: من أبوك؟ قال: أبي فلانٌ الراعي، وقد قصَّها النبي صلى الله عليه وسلم علينا للعِبرة، فإذا لم يُنازَع الزاني في الولد واستلحَقَ الولد، فإنه يلحقه، وإلى هذا ذهب طائفة يسيرة من أهل العلم.
وأكثر العلماء على أن ولد الزنا لا يلحق الزاني؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الولد للفِراش، وللعاهر الحَجَرُ))، لكن الذين قالوا بلحوقه قالوا: هذا إذا كان له مُنازِع كصاحب الفراش، فإن الولد لصاحبِ الفراش، وأما إذا لم يكن له منازع واستلحَقَه، فإنه يَلحقه؛ لأنه ولده قدرًا، فإن هذا الولد لا شك أنه خُلِق من ماء الزاني، فهو ولده قدرًا، ولم يكن له أب شرعي ينازعه، وعلى هذا فيلحق به.
قالوا: وهذا أَولى من ضياع نَسَبِ هذا الولد؛ لأنه إذا لم يكن له أبٌ ضاع نسبُه، وصار يُنسَب إلى أمِّه.
وفي هذا الحديث دليل على صبر هذا الرجل - جُريج - حيث إنه لم ينتقم لنفسه، ولم يكلِّفهم شططًا فيَبْنون له صومعته من ذهب، وإنما رضي بما كان رضي به أولًا من القناعة، وأن تبني من الطين.
وأما الثالث الذي تَكلَّم في المهد، فهو هذا الصبي الذي مع أمِّه يرضع، فمرَّ رجل على فرس فارهة وعلى شارة حسنة، وهو من أكابر القوم وأشرافهم، فقالت أم الصبي: اللهم اجعل ابني هذا مِثلَه، فترَكَ الصبيُّ الثدي، وأقبَلَ على أمِّه بعد أن نظر إلى هذا الرجل، فقال: اللهم لا تجعلني مثله.
وحكى النبي صلى الله عليه وسلم ارتضاعَ هذا الطفل من ثدي أمه بأنْ وضع إصبعه السبَّابةَ في فمه يمص، تحقيقًا للأمر صلى الله عليه وسلم.
فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبَلوا بجارية؛ امرأة يضربونها ويقولون لها: زنيتِ، سرَقتِ، وهي تقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقالت المرأة أم الصبي وهي ترضعه: اللهم لا تجعل ابني مِثلَها، فأطلق الثدي، ونظر إليها، وقال: اللهم اجعلني مثلها.
فتَراجَعَ الحديثَ مع أمه؛ طفل قام يتكلَّم معها، قالت: إني مررت أو مرَّ بي هذا الرجل ذو الهيئة الحسنة، فقلتُ: اللهم اجعل ابني مثله، فقلتَ أنت: اللهم لا تجعلني مثله، فقال: نعم؛ هذا رجل كان جبارًا عنيدًا، فسألتُ الله ألا يجعلني مثله.
أما المرأة، فإنهم يقولون: زنَيتِ وسرَقتِ، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقلتُ: اللهم اجعلني مثلها؛ أي: اجعلني طاهرًا من الزنا والسرقة، مفوِّضًا أمري إلى الله، في قولها: حسبي الله ونعم الوكيل.
وفي هذا آيةٌ من آيات الله؛ أن يكون هذا الصبي يشعر وينظر ويتأمَّل ويفكِّر، وعنده شيء من العلم؛ يقول: هذا كان جبارًا عنيدًا، وهو طفل، وقال لهذه المرأة: اللهم اجعلني مثلها، عَلِم أنها مظلومة، وأنها بريئة مما اتُّهِمت به، وعلم أنها فوَّضت أمرها إلى الله عز وجل، فهذا أيضًا من آيات الله؛ أن يكون عند هذا الصبيِّ شيءٌ من العلم.
والحاصل أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، فقد يحصل من الأمور المخالِفةِ للعادة ما يكون آيةً من آياته، إما تأييدًا لرسوله، أو تأييدًا لأحد من أوليائه.
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (3/ 68 - 78)

النقاء
03-15-2021, 06:02 AM
جزاك الله خير الجزاء

شرح كامل متكامل.

وفقك الله وبارك الله فيك

اشكرك نزف القلم .....

واجدة السواس
03-15-2021, 11:09 AM
بارك الله فيك ونفعنا بما قدمت

جزاك الله خير الجزاء والحسنات

دمت ودامت مواضيعك تتحفنا بما هو

قيم ونافع اثابك الله

سليدا
03-15-2021, 07:44 PM
جَزآكــم اللهُ خَيرَ آلجَزآءْ ..،
جَعَلَ أَيامكم نُوراً وَسُروراً
وَجَبآلاُ مِنِ آلحَسنآتْ تُعآنِقُهآ بُحوراً..
جَعَلَهُ الله في مُوآزيَنَ آعمآلَكــم
دَآمَ لَنآ عَطآئُكــم

نزف القلم
03-16-2021, 06:04 PM
كل الشكر والامتنان على مروركم الراقي
لكم مني كل الود والتقدير

بُشْرَى
03-16-2021, 09:48 PM
.

.

بوركت على هذه المنفعة للروح
جزيت كل خير ..


أسأل الله أن يكون بميزان حسناتك ..

احمد الحلو
03-16-2021, 10:47 PM
جُزيت خيرا

طرح راقي وثري وجهد مميز سلمت الايادي

سوسنتي الحلوة

احمد الحلو

هادي علي مدخلي
03-17-2021, 12:19 AM
بارك الله فيك أخي الكريم
ورفع الله قدرك