المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النَّبْعُ :


عبدالعزيز
02-18-2021, 08:57 PM
النَّبْعُ


عاج في أحد الأشتية عند الأصيل على النبع –الذي أحبه ، وألفه كثيرًا ، والذي يعوجُ عليه كلما أشجاه خطبٌ- وجال حوله قليلًا بخطى وئيدة ، ثم اتجه إلى الأثلة ، واتكأ على جذعها الضخم ، وأغمض عينيه ، وسرح بفكره إلى حقبةٍ انصرمتْ ، ثم أفاق من شروده على قطرات غيثٍ تسقطُ على وجهه ، ففرد كفيه ، حتى اجتمعَ فيهما الكثيرُ من القطرات ، فشربها ، ورنا بطرفه إلى السماء ، والغيث المنهمر ، ثم قال : غادَرَ حياتي من غَادَرَ معهم الأُنْسُ والسُّرُورُ ، وأَقَامَ الشَّجنُ بعدهم بقلبي ولم يَبْرَحْهُ !
وأنتِ إن بقيتِ فلكِ الكرامة والزُّلْفى ، وإن ظعنتِ ، فأنتِ كمن ظعن من أحبابي الذين لم يبرحوا قلبي ، ولا عقلي ساعة ، فأنتِ أثيرةٌ ، حبيبةٌ في ظعنكِ والإقامة ، وستظلين كالشمس ، بعيدة المنال ، وتغمرين قلبي بالضياء والدفء ، فأستودعُ اللهَ قلبكِ الرقيق ، وروحكِ النقية !
ثم رنا بطرفه إلى القرية القابعة خلف الرابية ، وقال : أعرفُ السُّبُلَ المُؤَدية إلى المدن والقرى ، ولكني لا أعرفُ السَّبيلَ المُؤَدِّيَ إلى قلبكِ النقي ، فهنيئًا لمن اهتدى إليه ، وحظي بصدقه ووفائه !
عاد إلى الأثلة واتكأ على جذعها الضخم ، وسرح بفكره إلى ذلك العهد المحبب إليه ، ثم أخرج قلمًا وورقةً وكتب فيها : لا تسألي عن حالي ! فما حالُ من ينتظرُ أزوف تلك الساعة منذ عشرين عامًا ، ولم يَنْبَلجْ نُوْرُها ، رغم طول انتظاره !
أيتها الحبيبة : ها هي السحب البيضاء بهدوئها وصفائها ، ونقائها ، تُزيحُ الغيوم السوداء (المثقلة بالفتوة ، القوة ، الأماني العذاب) ، لتستحلَّ مكانها !
أيتها الغيمة التي لم تظلني من هجير السأم ، ورمضاء النوى : سأُلملمُ جراح الهوى ، وذكريات الحنين ، وأظعنُ إلى حيثُ أقضي ما بقي لي من أيامٍ قد لا تطولُ ، حتى تأتي تلك الساعة –التي سألتُ الله كثيرًا أن يُعجِّل لي بها- ، وتبزغَ الشمسُ التي انتظرتها عشرين عامًا ، لتُبدِّدَ ليل الشجى ، فإذا غمرتْ قَلْبَكِ أمواجُ الحنينِ ، بعد هذا الهَجْرِ الـمُضني ، فلا تُكَلِّفي نَفْسَكِ عناءَ القُدُومِ إلى مُلْتَقَانا عند النَّبْعِ ، لأني أكونُ هناكَ في الموْطنِ الذي حَنَنْتُ إليه كثيرًا في مَجْمَعٍ من أحبابِ قلبي الذي ظعنوا ظُعُونًا لا أَوْبَةَ لهم مِنْهُ !
طوى الورقة ، ثم مضى إلى حديقة منزل الفتاة ، ووصل إليها عند السَّحَر ، فتخطى السياج ، واتجه إلى الشجرة التي عندها طاولة القهوة ، وأحد النظر إلى فنجان القهوة فوقها ، وقال : ارتشفتُ هواكِ العذب ، كما ترتشفين فنجان القهوة المرة ، المحببة إليكِ ، مع فارق حلاوة هواكِ وعذوبته ، بحرقه ، وإنهاكه ، ومرارة قهوتكِ وسخونتها !
وضع الورقة في التجويف في بطن الشجرة ، ومضى ميمِّمًا وجهه شطر قرن الشمس الذي بدأ يلوحُ لناظره ، وهو يقول : كان الحبُّ غَيْثًا ، والنَّأْيُ عَيْثًا !
بعد العصر وبينما كانتِ الفتاةُ تتناولُ قهوتها ، لفتَ انتباهها ، بياضٌ في تجويف الشجرة ، فنهضتْ لتستجلي الأمر ، فوجدت الورقة ، ففضتها ، وقرأتها ، وعرفتْ كل شيءٍ ، وعَدَتْ مُسْرعَةً إلى النَّبْعِ ، لعلها تراه ، لتُنْبِئَهُ بأَسْبَابِ نَأْيِهَا ، وعندما وَصَلَتِ النَّبْعَ ، انتظرته إلى الغسق ، ولكنه لم يحضر لأنه كان في تلك الساعة يسمع قرع نعالهم !

النقاء
02-18-2021, 09:35 PM
هلا بالأديب الرائع / عبدالعزيز
ماشاء الله تبارك الرحمن
سرد ممتع ونبع نبع من قلم صافي صادق
شعرنا كأننا نتعايش هالنص بحالته
ولابد لكل مكانه أثر يبقى
هنا نجد الإنبهار بِصوت خطوات القلم
ونبقى نستمتع بِهذا الصدى الممتع
نصك يلملم مفردات الحضور من نبع صافي
أبدعت حقيقة
وأنصت المساء لفخامة ترفع صهوة القلم فغادر ضوضاء حسنا
تقديري لسموك .......

سليدا
02-18-2021, 11:01 PM
القاص الرائع / عبد العزيز

هنا مكثنا وطال بنا المكث

استمتعنا بسردك المشوق ووصفك الممتع

وكأنها صورة استطقتها أحرفك المميزة

كم أبدعت أيها القدير

كلمات ولا أروع

اعجابي وتقيمي

مع اكرامك بهدية

محبتي وتقديري

سليدا
02-18-2021, 11:01 PM
تمت الاضافة

مبروك

هادي علي مدخلي
02-18-2021, 11:37 PM
لي عودة تليق بك يا صديقي flll:

هادي علي مدخلي
02-19-2021, 12:56 AM
الله الله الله
ويبقى الوفاء هو
العملة النادرة في الحياة
أقولها صدقاً من أجمل ما قرأت ...
عشرون عاماً من الانتظار
وبين مجيئها ومنيته ساعة
لم تكن عاشقاً بل تاريخ من العشق
أعاد صياغة الحُب بطريقة
يكسدٌ دونها كل حكاية
في ألف ليلة وليلة

القدير عبدالعزيز
أمواج احلامنا لا تنقضي
فهي على سفح الطوق باقية
كم تجليت في خلوة من نفسك
فكانت هذه الفاخرة
والتي أشبه بعناقيد مسجاه
على خدود الشمس
أنهكتها مواسم الانتظار
نص التحف السماء
والنبع فاض جنات وكروم
تقديري الكبير لك

واجدة السواس
02-19-2021, 01:22 AM
القدير الرائع عبد العزيز

قصة رائعة جدا

في تجوالي بين السطور

احتلني الصمت

وبرك قلمي

الا كررت القراءة مرات
لااعيش فيها

كم انت رائع
سلمت اناملك الذهبية
والحانية والرقيقة
اشكرك على هذه القصة

الأكثر من رائعة
تحيتي تليق لشخصك الراقي
ولقلمك الفاخر والمميز تقديري

🌹🌹

ملكة الاحساس
02-19-2021, 02:24 AM
كاتب وقصاص رائع

الاصاله التي في جوفك

تعكسها الحروف

احترم قلمك جدا
في هذا الزمن

ندره كأنت

تحياتي

أمير الحرف
02-20-2021, 01:32 AM
وجاء هنا عبدالعزيز بجمال لايقارن
في وصف الوحدة والحب والشوق والوداع
وتجسيد الألم الذي تسببه بالحياة
والمتاهات التي نسير بها عندما تصيبنا
فنتوه حتى عن انفسنا
فكم استوقفتني تلك الورقة
التي غرست في الشجرة
كان الالق مصاحب للكلمات
والجمال حليفها

بُشْرَى
03-06-2021, 09:44 PM
.

.


نصٌّ سرديّ معمّق
كاتب بليغ
ومرامي محبرتك باسقٌ


دمت


بُشْرَى