جابر محمد مدخلي
09-23-2020, 10:10 PM
بقايا غـــرام
أمسك بيديه قارورة عطرهما بعد أن جلسا في طريقٍ وعِر، لا يراهما فيه غير الصخور الصمّاء، والجبل الأشم المرتفع برأسه ليعانق هذا الموقف، وينقل صورة عاطفتها الجيّاشة لكل عشّاق الكون. توقفت أنفاسه هناك. رشق بعينيه كل الأمكنة المحيطة به وكأنه يوصيها بالشهادة على حُبّه حين يطلب منها ذلك. ضم حبيبته حيث لن تنسى ضمّته، ولن تترك بصمة يديه عالقةً على سوار ذاكرتها، وعنُق قلبها العنقودي. زاد في ضمّها حتى استرخت وعاثت بملامح نبضاته فسادًا. سلكت إليه بعينيها كل مسلك. خدّرها برائحة العِطر. قطف من حقيبتها أحمر شفاه، أسندها على كتفيها برقبتها الحمراء من أثر الهواء الطلق، ومطبوعات فمه. رفع (الخِمار) عن وجه أحمر شفّتها، وراح يسجّل ذاكرته بخطٍّ صغيرٍ على عنقها المستقيم:
(( ما نوع المداد الذي سأكتب به سيرة حبّنا الذاتية؟ وهل سيظل طعم فمك لاصقًا وملتصقًا بفمي حين أكتبنا غدًا حيث لا شاهد غير حروف ستغتسلين منها لمحو لقائنا وحماية جسدك من الشك، والسؤال، والعقاب؟ أيمكن للأحرف أن تعيش في ذاكرتنا فقط، أم أنها ستسير وتركض في أرواحنا وإن ابتعدنا؟))
أغلق قلم أنوثتها وأعاده فارغًا بعد أن استنزف كل ما فيه.. طالبًا منها الاحتفاظ به شاهدًا آخرًا على حادثة غرامهما. أخرج مناديله البيضاء. نسخ ما كتبه بعناية فائقة.. ثم التقطه (بجواله)، انتهى اللقاء. أعادها إلى بيتهم سالمةً معافاةً بكامل أنوثتها وزينة جسدها عدا تلك الذاكرة المخطوطة (بالروج)، والعُنق الذي وقّع عليه بحنان فمه.
ودّعته وهي تنوي النزول من سيارته قائلة:
– ” سأبقيك الليلة على عُنقي وستنام بذمة الله ثم بذمتي .. لن أغتسل منك ما حييت حتى ولو اغتسلتُ لعرسي القادم من غيرك. ستظل أنتَ عُرس حياتي، وملاذ روحي التي للتو نامت على أطهر أحضان رجلٍ شرقيٍ لم يمسني بسوء منذ أن أحببته حتى هزمتني الظروف وحملتني رياح النصيب لغيره .. أحبك حتى ترضى”
حمل سيوفها تلك وعاد ينحر بها عنقه كل مساء تلى تلك الليلة التي كانت الأخيرة وكانت المنفى العتيق الذي لم يخرج منه بغير(لقطة جوال، وذاكرة،ورائحة عطر).
مرّت الأيام عليه أثقل من طعنات السكاكين التي يراها في منامه كل مساء. ثقُلت عليه، أصابته الحُمى حتى نزف من فمه حزنه الأحمر الداكن. تجففت روحه. حملوه إلى مكانٍ خالٍ إلا من سرير.غرفة الأجواء المرضية التي حوته ثلاث ليالٍ حسوما. أفرغ في تلك الليالي الثلاث ما كان في حافظة روحه من سُعال، وأنين، وسهرٍ وعاد يركل عمره إلى الوراء حتى توقف إلى ما قبل أسبوع.. إلى المكان الذي تواعدا فيه، إلى عشاء روحه الأخير. انتصف الليل به وهو كمجنون ليلى يسير في البراري، والرمال. سأل الجبل الأشم عنها فلم يجبه، وسأل تلك الصخور التي طلب منها شهاداتها ولم يظفر منهما بغير أنّهما جمادًا لم يتعرفّا على لغة العُشاق بغير النقش والحفر. جلس إلى ذلك المكان وحيدًا، نكث تراب أحلامه مع حبيبته. وجد بقايا الحُب: أكياس سهرته، وبقايا حبوب الفستق، واللوز، وأخيرًا: قبض على منديلٍ ظل غائصًا تحت الثرى..أخرجه .. قلّبه بين يديه وإذ (بشفتيها) عالقةً عليه، نفض عنه التراب، ضمّه بفرح، عانقه وأكمل سهرته معه. عاد به إلى البيت. شفاه طويلاً من عِلله، وآلامه، ووحدته القاضية. تحدث إليه طويلاً. خرج في اليوم الثاني واشترى (بروازًا) غاية في الجمال، وضع داخله (بقايا شفاه عشقه) علّقه على جدار غرفة نومه ولم ينم …
عند الفجر أرسل جداره إلى حبيبته وغاب …
أمسك بيديه قارورة عطرهما بعد أن جلسا في طريقٍ وعِر، لا يراهما فيه غير الصخور الصمّاء، والجبل الأشم المرتفع برأسه ليعانق هذا الموقف، وينقل صورة عاطفتها الجيّاشة لكل عشّاق الكون. توقفت أنفاسه هناك. رشق بعينيه كل الأمكنة المحيطة به وكأنه يوصيها بالشهادة على حُبّه حين يطلب منها ذلك. ضم حبيبته حيث لن تنسى ضمّته، ولن تترك بصمة يديه عالقةً على سوار ذاكرتها، وعنُق قلبها العنقودي. زاد في ضمّها حتى استرخت وعاثت بملامح نبضاته فسادًا. سلكت إليه بعينيها كل مسلك. خدّرها برائحة العِطر. قطف من حقيبتها أحمر شفاه، أسندها على كتفيها برقبتها الحمراء من أثر الهواء الطلق، ومطبوعات فمه. رفع (الخِمار) عن وجه أحمر شفّتها، وراح يسجّل ذاكرته بخطٍّ صغيرٍ على عنقها المستقيم:
(( ما نوع المداد الذي سأكتب به سيرة حبّنا الذاتية؟ وهل سيظل طعم فمك لاصقًا وملتصقًا بفمي حين أكتبنا غدًا حيث لا شاهد غير حروف ستغتسلين منها لمحو لقائنا وحماية جسدك من الشك، والسؤال، والعقاب؟ أيمكن للأحرف أن تعيش في ذاكرتنا فقط، أم أنها ستسير وتركض في أرواحنا وإن ابتعدنا؟))
أغلق قلم أنوثتها وأعاده فارغًا بعد أن استنزف كل ما فيه.. طالبًا منها الاحتفاظ به شاهدًا آخرًا على حادثة غرامهما. أخرج مناديله البيضاء. نسخ ما كتبه بعناية فائقة.. ثم التقطه (بجواله)، انتهى اللقاء. أعادها إلى بيتهم سالمةً معافاةً بكامل أنوثتها وزينة جسدها عدا تلك الذاكرة المخطوطة (بالروج)، والعُنق الذي وقّع عليه بحنان فمه.
ودّعته وهي تنوي النزول من سيارته قائلة:
– ” سأبقيك الليلة على عُنقي وستنام بذمة الله ثم بذمتي .. لن أغتسل منك ما حييت حتى ولو اغتسلتُ لعرسي القادم من غيرك. ستظل أنتَ عُرس حياتي، وملاذ روحي التي للتو نامت على أطهر أحضان رجلٍ شرقيٍ لم يمسني بسوء منذ أن أحببته حتى هزمتني الظروف وحملتني رياح النصيب لغيره .. أحبك حتى ترضى”
حمل سيوفها تلك وعاد ينحر بها عنقه كل مساء تلى تلك الليلة التي كانت الأخيرة وكانت المنفى العتيق الذي لم يخرج منه بغير(لقطة جوال، وذاكرة،ورائحة عطر).
مرّت الأيام عليه أثقل من طعنات السكاكين التي يراها في منامه كل مساء. ثقُلت عليه، أصابته الحُمى حتى نزف من فمه حزنه الأحمر الداكن. تجففت روحه. حملوه إلى مكانٍ خالٍ إلا من سرير.غرفة الأجواء المرضية التي حوته ثلاث ليالٍ حسوما. أفرغ في تلك الليالي الثلاث ما كان في حافظة روحه من سُعال، وأنين، وسهرٍ وعاد يركل عمره إلى الوراء حتى توقف إلى ما قبل أسبوع.. إلى المكان الذي تواعدا فيه، إلى عشاء روحه الأخير. انتصف الليل به وهو كمجنون ليلى يسير في البراري، والرمال. سأل الجبل الأشم عنها فلم يجبه، وسأل تلك الصخور التي طلب منها شهاداتها ولم يظفر منهما بغير أنّهما جمادًا لم يتعرفّا على لغة العُشاق بغير النقش والحفر. جلس إلى ذلك المكان وحيدًا، نكث تراب أحلامه مع حبيبته. وجد بقايا الحُب: أكياس سهرته، وبقايا حبوب الفستق، واللوز، وأخيرًا: قبض على منديلٍ ظل غائصًا تحت الثرى..أخرجه .. قلّبه بين يديه وإذ (بشفتيها) عالقةً عليه، نفض عنه التراب، ضمّه بفرح، عانقه وأكمل سهرته معه. عاد به إلى البيت. شفاه طويلاً من عِلله، وآلامه، ووحدته القاضية. تحدث إليه طويلاً. خرج في اليوم الثاني واشترى (بروازًا) غاية في الجمال، وضع داخله (بقايا شفاه عشقه) علّقه على جدار غرفة نومه ولم ينم …
عند الفجر أرسل جداره إلى حبيبته وغاب …